في ليلة قال عنها الفنان الشعبي التونسي المعتزل لأغاني "المزود" فوزي بن قمرة: "هي أسعد ليلة في حياتي"، كان التفاعل الجماهيري كبيرا مع الفنان العائد للغناء والمهرجانات التونسية بعد غيبة امتدت لتسع سنوات.. بدا فوزي بن قمرة سعيدا للغاية في السهرة الختامية لمهرجان الياسمين برادس في دورته الثامنة عشرة التي انطلقت في السادس من يوليو/ تموز الماضي ليكون الختام ليلة الإثنين التاسع من أغسطس/ آب الجاري، ومردّ هذا السرور على حد تصريح بن قمرة ل"العرب أونلاين" اثر نهاية عرضه المهرجاني الأول بعد الغياب: "أشعر حقيقة أنني لم أغب طوال هذه الفترة الممتدة من سنة 2001 الى اليوم، فالجمهور حباني بمحبة لا توصف هذه الليلة رغم اختلاف المقدّم قديما وحديثا، وأنا شاكر لفضل الله تعالى على محبة الناس التي ستزيدني في قادم الأيام مسؤولية ومشروعية لغناء هذا اللون الصوفي الأقرب الى قلبي". وأضاف بتأثر بالغ: "حمدا وشكرا لك يا رب". وحفل بن قمرة في رادس الذي انتظره الجمهور طويلا لاكتشاف الوجه الجديد للفنان الشعبي الأول في تونس أواسط التسعينات قبل اعتزاله الكلي لهذا اللون، كان مفاجأة سارة للطرفين الفنان والجمهور، فأما عن الأول فقد بدا عليه التأثر كثيرا بردّة فعل الجمهور الذي صفّق طويلا له ونادى باسمه بين فواصل الأناشيد، بل وصل الأمر الى حد اطلاق الزغاريد من بعض السيدات اللاتي تفاعلن كثيرا مع بن قمرة في جو من الخشوع والانصات القريب من التماهي مع المقدّم. "جوهر الحسن" عنوان العرض الذي عاد به بن قمرة الى جمهوره المتعطّش لسماع صوت غنى "المزود" التونسي لسنوات فطوّر فيه وقدّمه في شكل موسيقي رائق ومغاير للسائد، فعدّه النقاد أيامها استثناء في عالم الفن الشعبي التونسي وعنوان المصالحة بين المستهجنين لهذا الفن من بعض المثقفين والموسيقيين الذين يرون في الفن الشعبي اخلالا بالذوق العام لما اتسم به سنوات السبعينات والثمانينات -على حد تقييمهم- بالهجانة كلمة ولحنا، وبخاصة كان اعتراضهم شديدا على الأشخاص قبل الأعمال.. إلاّ أن صاحب روائع "ع الباب سويقة، ويا دادة واش، وجواباتي كثرت يا ميمة" فاجأ الجميع باعلانه الاعتزال وهو في قمة نجوميته، مما أثار جدلا واسعا في الشارع الثقافي التونسي حينها، ليعود اليوم بشكله الصوفي الرائق الذي قدّمه في الليلة الفاصلة بين الاثنين والثلاثاء من 9 و10 أغسطس الجاري. فالفرقة الموسيقية التي قادها باقتدار وجدارة محمد مهدي البحري والمتكوّنة من سبعة عازفين وستة منشدين قدّمت ليلتها أفضل الأناشيد الصوفية في نسق تصاعدي لا يأتيه الاّ خبير بالمسارح والجمهور كفوزي بن قمرة رغم الخجل المفرط الذي بدا عليه، أما الايقاعات فقد أتت تشكيلة رائعة من صنوف موسيقية عدة نهلت من الموشح العربي والمالوف التونسي والقد الحلبي والايقاع المغربي وأيضا الهندي، أما الكلمات فجميعها تمجيد لعظمة الخالق ورحمته وصلاة على رسوله الكريم. يا لطيف، ابدأ بسم الله، الحمد لله، يا مولانا، بدأنا باسم الله، البردة، رحماك وغيرها من الأناشيد الصوفية الخاصة بفوزي بن قمرة التي نزلت في شريطة الأخير الجديد "جوهر الحسن" أو غيرها من الأناشيد العيساوية والسلامية والقادرية المتوارثة جيلا بعد جيل، ألهمت الجمهور الحاضر ليلتها وجدا وتماهيا عجيبا وحسا روحانيا خارقا ليلة أو ليلتين قبل حلول الشهر الفضيل، وقد كان التفاعل بين الجمهور وفنانه في أوّجه حين غنى بن قمرة ولأول مرة حسب اعلانه للجمهور، قبل حتى أن يسجلّها في الأستوديو، أغنية "شفت الدنيا" التي وضع كلماتها الشاعر التونسي عماد الورغي والتي يروي فيها بن قمرة سيرة فنان وصل المجد وأطبقت شهرته الآفاق دنيويا، قبل أن يأتيه هاتف من السماء ليعي أن محبة الله ورسوله هي الأصلح.. أغنية أثرت كثيرا في الجمهور الذي أطلق الزغاريد وآهات الانتشاء الروحي لا الايقاعي احتفاء بفنان أحبّوه مطربا وأحبّوه أيضا منشدا، فاحساس بن قمرة وصدقه في منهجه الجديد الذي اختاره وصل ليلتها سلسبيلا للجمهور الأمر الذي يُؤكّد بداية عودة نجم غاب طوعا ثم عاد واثقا، وهو ما عبّر عنه بن قمرة تواضعا لله في المؤتمر الصحفي الذي جمعه بالاعلاميين اثر نهاية الحفل، حين سئل عن الفرق بين نجومية الأمس ونجومية اليوم فأجاب باقتضاب خجول: "نجومية اليوم، ان اعتبرناها كذلك أصدق". فوزي بن قمرة ومن خلال حفله الأول في مهرجانات تونس بعد غيبة مطولة عن الجمهور والمسارح، عاد بلون جديد مغاير لم يعهده الجمهور منه في السابق، فلاقى به هذا اللون الذي أتى صادقا من فنان صادق ومجتهد، لكن يبقى على بن قمرة الاجتهاد أكثر والاشتغال أفضل على التمارين، فالصوت والارتباك ظهرا جليان في عرضه الأخير، كما أن "الغُنّة" الصوفية التي تميّز مشائخ الطريقة لم تتبلور بشكل كامل لدى فنان كان يُغني في السابق بصوت ذكوري أجش بحسب نوتة المقام الموسيقي الذي يغنيه "المزود" ليتحوّل الآن الى منشد من أولى أساسياته الصوتيّة اجادة الترتيل والنطق الجيد لمخارج الحروف إضافة الى الغُنّة البكائية، وهو ما اعترف به بن قمرة صادقا عند ملاحظة "العرب" له في هذا الخصوص.. مُعربا عن عمله لاحقا على تفادي هذه الهنة التي تبقى في متناول صوته واجتهاده. في المحصّلة يمكن الاقرار بأن حفل بن قمرة في مهرجان الياسمين برادس هو بمثابة عودة الدر الى مكمنه، وبداية استعادة نجم لبريقه الذي لم يصدأ رغم الغياب، ومهما تغيّرت الأسباب واختلفت الألوان الموسيقية التي اشتغل عليها بن قمرة سابقا أو لاحقا فالصدق هو نبراسه في الحياة والفن، وهو ما وصل كما أسلفنا سابقا الى الجماهير التي استقبلت عودته ليلتها أفضل استقبال.. كما يبقى لمهرجان الياسمين برادس حقه المحفوظ في المبادرة والايمان بعودة نجم غير مسبوق في تونس. العرب أون لاين ج 10 أغسطس 2010