تخوض المقاومة في فلسطين ولبنان حربا شرسة و غير متكافئة يريد فيها العدو و من يقف وراءه فرض الاستسلام على الأمة و تمرير الحلو ل المرفوضة بقوة السلاح . وتتداعى الشعوب الإسلامية للتعبير عن تضامنها بمختلف الوسائل و الأشكال ، و تجبر الأنظمة التي كانت قد ألغت من حسابها واجب الإعداد لمثل هذه المعارك فتنهض و لو متأخرة لاتخاذ المواقف السياسية التي تساير فيها الرأي العام و تعلن دعمها للمواقف اللبنانية . بيد أن بعض النخب العربية و أخص بالذكر منهم بعض التونسيين و التونسيات " لا يرحمون و لا يتركون رحمة الله تنزل " فقد صور لهم خيالهم أنهم امتلكوا ناصية العقلانية و الحداثة و أن واجبهم يحتم عليهم ، تنبيه القوم و تسجيل الموقف السياسي الذي به سيعلو شأنهم بين الناس في مستقبل الأيام أو هكذا تخيلوا ؟؟ بعد أن تضع الحرب أوزارها ويأتي موسم الحساب والعقاب ... يكتب هؤلاء من موقع عدائهم للحركة الإسلامية ودفاعا عن خيارهم في الانحياز إلى جانب الديكتاتورية ، فيدعون أنهم وحدهم الذين فقهوا ما تتطلبه المرحلة من رؤية متبصرة ، ووحدهم الذين يفهمون حقيقة المعادلات التي تحكم علاقة العرب بدولة إسرائيل و من ورائها الدول الكبرى ، وما سواهم هم من الرعاع و الدهماء و العامة الذين ينساقون وراء عواطفهم و يتبعون كل مناد حتى و إن كان يناديهم لحتفهم . وهم بذلك قد يدخلون فيمن تعنيهم الآية الكريمة :"إن تصبك حسنة تسؤ هم و إن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل و يتولوا و هم فرحون "ه . لقد تقطعت قلوبهم و هم يتابعون، كيف تتوجه الأمور من حولهم إلى غير ما يشتهون ، و تأخذ الاتجاه الذي يسفه مقولاتهم و يقيم الدليل على تهافتهم ، فهاهي حماس تحقق نجاحا في الانتخابات الفلسطينية ،و هاهو حزب الله يطر د العدو من جنوب لبنان ثم يثبت صدق خيار المقاومة وما يجري من أحداث من إندونيسيا إلى المغرب ليس بعيدا عن هذا النمط ... هم اعتقدوا أن حزب الله قد دخل مغامرة ستقسم ظهره قد أصابته مصيبة يحق لهم أن يفرحوا بها ولما بينت الأحداث من جديد تفاهة خطابهم "العقلانوي" تركوا أخبار المعارك التي تجري و انكبوا على الأسباب و المسببات يشبعونها تحليلا و دراسة لينتهوا إلى أن الضحية ما كان له أن يستفز الجلاد ، و بالتالي فهم يسقطون في تبرير جرائم العدوان و ينتصرون للظالم بما ينسجم مع مواقفهم الجبانة و تطلعاتهم الفاسدة ، فهم يناصرون الاستبداد في إجرامه و يقفون مع العدو ضد أهلهم . ألحت عليّ هذه الأفكار بعد أن طالعت مقالا للدكتورة رجاء بن سلامة و تعقيبا لسلوى الشرفي و هما نموذجان للفئة المتعقلنة في تونس التي طالما راهنت في الماضي على أن الصحوة الإسلامية ليست إلا ظاهرة عابرة ستزول بزوال أسبابها و أنها ردة فعل وقتية على تيار الحداثة الجارف ، وما إلى ذلك من أطروحات تبين أنها لا تستوعب حاضرا و لا تستشرف مستقبلا ، ثم انخرطت هذه الجماعات في حرب الاستئصال التي شنتها السلطة ضد الحركة الإسلامية بتسويق أفكار مريضة تتلخص في أن دخول تونس عصر الديمقراطية و الحرية سيكون بعد التخلص من الخطر الأصولي ... وبعد أحداث الحادي عشر من سيتمبر وسقوط حكومة الطالبان ظن هؤلاء أن الحرب على الإرهاب التي أعلنتها الولاياتالمتحدة و حلفائها الصغار و الكبار ستقضي نهائيا على الإسلام السياسي كما يسمونه . لكن في كل مرة تكذب تطورات الأحداث تحاليلهم و تسفه أحلامهم و تعود بهم من جديد إلى مربع الخيبة و الانتكاس . وهم يرفضون اليوم أن يصدقوا عنادا ومكابرة أن كل حديث عن المقاومة و الديمقراطية و الحرية بعيدا عن مطالب الصحوة الإسلامية و تطلعاتها و فعالياتها هو باختصار شديد خروج عن الموضوع . لا أريد أن أرد على مضمون المقال الذي كتبته الدكتورة و قد تصدى لذلك من أعطى فأوفى ولكنني أود أن أؤكد على أن الرؤية المتفحصة التي يتبناها الكثير من الباحثين العرب وهي أن جزء من الأزمة التي تعيشها الأمة العربية منذ عقود يتمثل في هذه النخبة التي لا تعي ما حولها و تتعامل مع أوضاعنا بأدوات مغشوشة و من سوء حظنا أنها قريبة من أصحاب القرار السياسي و بالتالي فهي تتحمل جزء من المسؤولية في هذه الأوضاع المتردية ... لا تراعي هذه النخب أن رجال المقاومة هذه الأيام يخوضون معركة و أن الواجب يحتم على أهل الدار أن يصمتوا إذا كان لهم رأي يقعدهم عن المشاركة و أن الوقت لا زال مبكرا حتى نتدارس الأوضاع التي ستترتب عن العدوان على لبنان ونبحث فيما كان يجب أن يحدث ويكون ، بل تبذل جهودا في التخذيل و بث روح التثاقل و الانتظار بما تعبر عنه من مواقف . . و لا تدرك هذه النخب أن لأيام الحرب منطقها الخاص واستحقاقاتها اللازمة ، التي تجعل من غير اللائق الدخول في مناقشات ستبدو لا محالة في غير محلها لأن هناك مقاتلون يخوضون الحرب و ينتظرون الدعم الكامل منا وعلى كل المستويات المادية و المعنوية ، الإعلامية و التعبوية ، يحتاجون إلى المناصرة اللا مشروطة ، لأن هؤلاء لا تعنيهم شروط المعركة و استحقاقاتها ،إنهم لا يحتملون أجواء المعارك حتى وهم خلف مكاتبهم الفاخرة ، وهم مهزومون ومستسلمون ، لا يفكرون في مقاومة و لا يؤمنون بمبدأ , امتلأت بطونهم بالمال الحرام و تمكنت منهم ثقافة الهزيمة حتى لم تعد لديهم إشارة حياة ، فهم الذين روجوا بيننا لأسطورة الجيش الذي لا يقهر ، وهم الذين يروجون اليوم أطروحة هزيمة المقاومة اللبنانية قبل الأوان . ومرة أخرى يكذب الواقع ما ذهبوا إليه ، فالأخبار الواردة من جنوب لبنان تتحدث عن الجيش الصهيوني الذي يجد مقاومة عنيفة على الأرض التي كان يدخلها في السابق دخول المتنزهين فيصل بيروت في اليوم التالي ليفرض فيما بعد كل شروطه ، المقاومة الإسلامية أرغمته عام 2000م على الانسحاب من البلد وهي اليوم تلقنه درسا في الصمود و التحدي و الشجاعة و الإقدام و توقع فيه الإصابات الموجعة ... صحيح أن آلة الحرب الإسرائيلية قد دمرت البنية التحتية للبنان و خربت ما شاء لها أن تخرب ،وبالتالي فمن قبيل المبالغة الحديث عن انتصار ... وهذا لا يعيب المقاومة في شيء لأنها تبقى في النهاية مقاومة شعبية ليس عليها منع التخريب و التدمير فتلك مسؤولية الجيوش العربية التي تخلت عن الإعداد أولا و امتنعت عن الدفاع عن أرضها لاحقا ، بل لعل المقاومة بقيامها بتلك العملية العسكرية الشجاعة قد كشفت المستور و بينت حقيقة الأمور ، إذ أظهرت أن مسلسل عملية السلام ليس إلا مناورة كبرى تشترك فيها الدول العظمى . وترمي إلى إحكام السيطرة على الثروات و فرض الاستسلام بدون تكاليف ، حتى اقتنع النظام الرسمي العربي بموت عملية السلام ، مما يترجم عن استفاقة البعض من أصحاب القرار العربي و يبشر بإمكانية إحداث نقلة في أوضاع المنطقة ترجع الأمر إلى نصابها ، و يجمع القوم على أن الإعداد للمعركة الفاصلة في فلسطين هو جزء لا يتجزأ من التنمية الشاملة ... لقد كشفت الحرب في لبنان أن الكيان الصهيوني بشكل خطرا داهما لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهله ، وأنه يجب أن يعاد النظر في كل السياسات الخاطئة التي أتبعت من مختلف الأنظمة العربية و أدت إلى الانخراط في عولمة لا يأتي منها إلا مزيدا من الضعف و التبعية و الوقوع تحت سيطرة القوى المهيمنة . حزب الله اليوم برهن على أن خيار المقاومة ليس مغامرة ، و نجح في التصدي للجيش الصهيوني ، وسفه دعاة الهزيمة و الاستسلام و لعلها ستكون بداية النهاية لمشروع إسرائيل الكبرى أو الشرق الأوسط الجديد ." و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون "