كان الرئيس السوري بشار الأسد العربي الأكثر فرحة وانتشاء بالانتصار التاريخي الذي حققته المقاومة اللبنانية في حربها الأخيرة ضد إسرائيل. سرّ هذه الفرحة العارمة والفريدة ليس نكبة إسرائيل وبداية العد التنازلي لإمبراطورية الشر الأمريكي والهيمنة الغربية في المنطقة والعالم، فذلك أمر يشترك فيه مع كل عربي ومسلم، بل مع كل حرّ نزيه في العالم مهما كان دينه أو عرقه. السر يكمن في فرصة التشفي والثأر من خصومه في لبنان وتحديدا قوى 14 آذار، كما من " أنصاف الرجال" الذين انكشفت عوراتهم وزهق باطلهم وبان عجزهم وجبنهم أمام كل العرب. موقف، في اعتقادي كما في معايير السياسة والعقلانية، فاقد للحكمة بل عار من الصواب تماما. لقد كان أجدى ببشار الأسد أن ينظر بعين القائد لشعبه لا بغريزة الثأر والانتقام من خصومه. كان أنفع لسوريا أن تستثمر النصر الأخير، والحرب قد بدأت الآن فعلا، في تقليص طوق الخصوم من حولها وتوسيع دائرة الأصدقاء. لم يكن الأمر يستوجب كلفة عالية وإنما هي مجرد كلمات رقيقة حانية لمن هم أقرب للعجز والارتباك منهم للخيانة والعمالة، هذا فيما يتعلق بلبنان وقوى 14 آذار طبعا. أما على الصعيد العربي، فإن سبة "أنصاف الرجال" ليست في محلها إطلاقا، لا لأنها تجن عليهم إذ هم أبعد من الربع عن الرجولة، بل لكون المسؤولية والظرف يستدعيان كظم الغيظ والعفو عن المجرمين. كلمة دبلوماسية طيبة ربما كانت أجدى لسوريا التي تحتاج إلى تحييدهم وكف أذاهم إذ لا يرجى من عمالتهم برء بل ربما تزيدهم السبة حقدا وتآمرا على المقاومة وأنصارها داخل أوطانهم وخارجها. تجاه أمريكا والغرب عموما، كان أجدى لسوريا أن تستثمر الانتصار بتحويله فتنة بين إسرائيل وحلفائها. صحيح أن أمريكا هي التي قادت الحرب وأن إسرائيل ليست إلا أداة في تنفيذها، لكن الأصح هو وقوف البيت الأبيض والنخب الغربية عموما على حقيقة فشل إستراتيجية المراهنة على إسرائيل لحماية مصالحهم في المنطقة. ملامح الأزمة القادمة في العلاقات بين الغرب وإسرائيل كان بالإمكان تعميقها لو خاطب الرئيس السوري الشعوب الغربية وعقلاءها مبرزا لهم خطورة المواقف الرعناء والظالمة لحكوماتها الداعمة لكيان عنصري وغاصب. كان أوقع في آذان السامعين لخطابه بل في عقولهم وقلوبهم لو تحدث الرئيس السوري في "عكاظية التشفي" عن الحق العربي والسلام العالمي وحوار الحضارات وجنون الحكومات الغربية ودعا شعوبها للتحرر من اللوبيات الصهيونية التي تسيطر عليها وتوجهها نحو الجحيم الكوني والانحطاط القومي . لقد كانت فرصة تاريخية لإبراز الوجه الحضاري للصراع وأن المقاومة الممتدة من أفغانستان وكشمير إلى السودان والصومال مرورا بإيران والعراق وفلسطين وسوريا ولبنان، ليست إرهابا، كما تصورها لهم وسائل إعلامهم المتصهينة، وإنما هي مقاومة شرعية ذات مضمون إنساني تهدف لتحرير الأرض وتقرير المصير وبناء عالم الحق والكرامة والرفاهية لكل شعوب الأرض لا للرجل الأبيض فحسب. أخيرا، لا آخرا، كان خطاب الأسد فرصة لإعادة بناء شرعية حكمه، داخليا، على غير أسس التوريث والعنف. لقد وفر له الانتصار الأخير للمقاومة، بفضل الدعم الرسمي، شعبية ورصيدا يمكنانه قطعا من تكوين إجماع حقيقي حول شخصه عبر فتح نظامه سياسيا على كل القوى الاجتماعية وتجاوز البنية الطائفية للدولة. كان بالإمكان تحقيق ذلك دون كلفة باهظة عبر إطلاق سراح كل المساجين السياسيين وإعلان عفو تشريعي شامل ومرحلة جديدة في الحياة السياسية عنوانها الكبير "الديمقراطية والحريات" في غير ثوبها التقليدي الزائف. للأسف، لم يختر الرئيس السوري أيا من هذه الأفكار بل آثر الانتقام وإشفاء الغليل والسخرية من "الأعداء" تماما كما يفعل "الأقوياء جدا" فخالف بذلك موعظة ساقها في خطابه مفادها أن "القوي جدا عادة ما يفقد توازنه" في معرض تهكمه من العنجهية الأمريكية والصهيونية. إن الخطاب الأخير لبشار الأسد تعبير آخر عن محنة السياسة العربية ووقوعها في أسر البنية التقليدية المنتجة للعقل القبلي المحكوم بقيم الثأر وعكاظيات النصر. *