تعيش الساحة النقابية حالة من المخاض في الفترة الراهنة، على خلفية قرار المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل، عقد المؤتمر في منتصف ديسمبر المقبل، بعد أن كان مقررا تنظيمه في موعده القانوني، ربيع العام 2007، وفقا لنص النظام الداخلي للاتحاد.. وكانت الهيئة الإدارية للاتحاد التي التأمت يومي الرابع والخامس من الشهر الجاري، زكت قرار المكتب التنفيذي بعد مناقشات طويلة، وفق ما تردد من كواليس الهيئة الإدارية، التي حدّدت عقد المؤتمر أيام 14 و 15و 16 ديسمبر بالمنستير.. وأفادت معلومات مؤكدة من داخل الهيئة الإدارية لاتحاد الشغل، وجود شقين اختلفا كثيرا حول مسألة المؤتمر، دافع الأول عن خيار تقديم موعد المؤتمر، فيما حرص الثاني على التأكيد على ضرورة الالتزام ببنود النظام الداخلي، التي تشير إلى ضرورة توفر نحو 6 أشهر بين إعلان تاريخ المؤتمر وتوقيت انعقاده، الأمر الذي لم تحترمه القيادة النقابية، عبر مؤسستي المكتب التنفيذي والهيئة الإدارية، حيث لا تتجاوز المدة الفاصلة بين سبتمبر ومنتصف ديسمبر، ثلاثة أشهر ونيف.. وفي الحقيقة، فإن قرار تقديم المؤتمر، فاجأ بعض أعضاء المكتب التنفيذي ذاتهم، قبل عموم النقابيين.. فالجميع كان منشغلا بملفات نقابية مطلبية عديدة وهامة، على غرار التأمين على المرض، ومسألة نقابة التعليم العالي والبحث العلمي، واستحقاقات القطاع الصحي، إلى جانب بوادر ما سمي ب «التعددية النقابية»، على خلفية إنشاء نقابة مستقلة (من خارج اتحاد الشغل) للتكنولوجيين، بالإضافة إلى ملف المفاوضات حول الوضع الاجتماعي والنقابي في عدة قطاعات، سواء في المؤسسات العمومية أو الخاصة.. ولعل مصدر تفاجؤ النقابيين، أن قيادة المنظمة كانت كذبت في وقت سابق، الأنباء والإشاعات التي ترددت حول إمكانية تقديم موعد المؤتمر، واعتبرت أن ذلك من باب المزايدات ومحاولة إرباك القيادة النقابية بمسائل هامشية غير ذات معنى».. لذلك لم يتردد عديد النقابيين في التساؤل حول دوافع تقديم موعد المؤتمر، الذي كانت قيادة المنظمة تصر على احترام موعده الأصلي.. وفتحت تبعا لذلك أبواب التأويلات على مصراعيها، فيما تحركت آلة « المعارضة النقابية» التي لم تتردد في القول بأن هذا التقديم، يؤكد مواصلة القيادة النقابية اعتماد سياسة الهروب إلى الأمام، والقفز على الإشكاليات النقابية الحقيقية المطروحة، ومحاولة الالتفاف على بعض التحركات النقابية التي تستهدف، الترشح أو على الأقل التمهيد لكي تكون رقما ضمن المعادلة الانتخابية القادمة.. ووصف نقابيون « مستقلون»، قرار تقديم موعد المؤتمر، ب «المناورة « الجديدة للقيادة النقابية، لصرف أنظار النقابيين عن القضايا المطروحة في الساحة العمالية، ومحاولة الاستجابة لأجندا غير نقابية تماما، فيما اعتبرها آخرون جزءا من سياسة قديمة جربت مع قيادات نقابية سابقة، تعتمد تلهية النقابيين بصراعات انتخابية كثيرا ما تسببت في تساقط قسم من حبات العنقود النقابي في كل استحقاق انتخابي، بشكل يؤدي إلى مزيد من الانقسامات داخل الصف النقابي، وترهل دور النقابيين وضعف موقفهم، وهو ما سوف يضعف الوحدة النقابية في المحصّلة الأخيرة.. ليس هذا فحسب، بل إن جناحا من النقابيين يتداول خلال الأيام الأخيرة، فكرة تشكيل نقابات مستقلة، بل ثمة أوساط من ساحة محمد علي، تتولى التسويق لموقف قديم جديد، يتعلق بتأسيس منظمة عمالية جديدة، يقولون أن الساحة التونسية بحاجة إليها، بل يعتبرونها ضرورية ومشروعة وفي مصلحة جميع الأطراف، على حد تعبير البعض من القيادات النقابية السابقة التي تقود عملية التسويق هذه.. من جهة أخرى، يرى بعض المحللين والمتتبعين للشأن النقابي، أن قرار تقديم المؤتمر، تضمن رسائل عديدة لأطراف مختلفة.. أول هذه الأطراف، المنتقدون للقيادة الحالية الذين ما فتئوا يشيرون إلى افتقادها لبرنامج واضح، وعدم استعدادها لدخول المعترك الانتخابي بعد أن فشلت وعودها بالتصحيح والإصلاح التي صعدت بسببها إلى سدة القيادة في مؤتمر جربة المنقضي.. لذلك تأتي عملية التقديم لتؤكد جهوزية القيادة الحالية التي سيكون عليها، الإعداد للمؤتمر في ظرف قياسي ووجيز للغاية لا يتعدى الثلاثة أشهر.. أما الطرف الثاني المعني بقرار تقديم موعد المؤتمر، فهم النقابيون وجزء من الطبقة السياسية الذين شككوا في إمكانية ترشح الأمين العام الحالي، السيد عبد السلام جراد، إلى الأمانة العامة، بحكم ما تردد عن «ظروفه الصحية « و«فشله» في إدارة دفة تسيير المنظمة بشكل ديمقراطي يحافظ على الوحدة النقابية على الرغم من النسيج المتعدد صلبها.. والحقيقة، أن جراد برهن خلال الفترة الماضية عن شجاعة افتقدتها بعض القيادات الحزبية ، خصوصا عندما عرف كيف « يضبط» الرأي العام النقابي خلال أحداث العدوان الإسرائيلي على لبنان، واستجاب لتعاطف النقابيين مع المقاومة اللبنانية من دون أن يتسبب في انفلاته، كما لم يتردد في طرح جملة من القضايا «السياسية» الصرفة، رغم الخطوط الحمراء التي تحيط بها، و اتخذ الرجل قرارات نقابية، ربما أغضبت بعض الأطراف، لكنها أعادت لبعض القطاعات النقابية دورها وكلمتها ضمن الوضع الاجتماعي العام.. هناك عديد الانتقادات للسيد جراد، خصوصا من حيث تعاطيه مع بعض الملفات النقابية، على غرار نقابة التعليم العالي، وانسياقه وراء ما يقال عن «تجاوز قوانين المنظمة»، لكن ذلك لن يقلل شيئا من الحظوظ الكبيرة التي ينطلق بها الرجل للفوز بالأمانة العامة، مهما كان عدد المنافسين وقيمتهم النقابية والمعنوية، وهو ما يفسر قراره تقديم المؤتمر القادم، في إشارة إلى عدم حاجته لخوض تحالفات انتخابية في ظل ساحة نقابية مهيأة لاستمراره على رأس القيادة النقابية.. قراءات مختلفة.. ويبدو من خلال بعض المعلومات التي حصلت لدينا، أن إمكانية تراجع القيادة النقابية عن قرار وقّعت عليه الهيئة الإدارية، أمر مستحيل في ضوء موازين القوى التي تميل في الوقت الراهن لصالح القيادة النقابية.. ولهذا السبب، انصرفت اهتمامات النقابيين إلى التحالفات وقراءة حظوظ أعضاء المكتب التنفيذي الراهن، في الحفاظ على نفس الأسماء والمقاعد والمسؤوليات، وسط توقعات بأن يعرف المكتب التنفيذي، نسبة تجديد تناهز الثلاثين بالمائة من عدد أعضائه الحاليين.. على أن معارك شرسة سيتم خوضها، وتحالفات كبيرة سيقع نسجها في الاستحقاق الانتخابي القادم.. ويتحدث البعض في هذا السياق، عن تحالف مرتقب بين بعض «الأصدقاء التاريخيين» (في إشارة إلى السيدين علي رمضان وعبد النور المداحي)، تحالف ربما استفاد من اتساع رقعة القواعد النقابية التي تقف وراء الرجلين، وهو أمر تشكك فيه بعض الأطراف بالنظر إلى ضبابية موقف أحدهما إزاء الآخر، فيما سيخوض آخرون معارك شرسة من أجل الحفاظ على مواقعهم صلب المكتب التنفيذي، على غرار السادة المنصف اليعقوبي وناجي مسعود ورضا بوزريبة، المرشحين لمغادرة القيادة النقابية، وفق قراءات يشكك البعض في خلفيتها وصحتها، بل لا يتردد البعض الآخر في وصفها ب «المتهافتة».. وعلى أية حال، فإن الاتحاد العام التونسي للشغل، مقبل على أشهر صعبة ربما كان هذا المؤتمر سبيلا لتقوية عوده، فيما لا تستبعد بعض الأطراف إمكانية أن يخرج منه أضعف مما هو عليه الآن.. والسؤال المطروح في الأوساط النقابية والسياسية عموما هو: بأي اتجاه سيسير قطار النقابيين، وأي أجندا نقابية للمرحلة القادمة؟