"يوتيوب" يحجب الحساب الرسمي لرئيس هذه الدولة.. #خبر_عاجل    غدا الأحد: هذه المناطق من العالم على موعد مع كسوف جزئي للشمس    جمعية المرسى الرياضية تنظم النسخة الرابعة من ماراطون مقاومة الانقطاع المبكر عن الدارسة    عاجل/ بشائر الأمطار بداية من هذا الموعد..    عاجل/ حملة أمنية في أسواق الجُملة تُسفر عن إيقافات وقرارات بالإحتفاظ    قريبا في تونس: شركة الألبان تستأنف نشاطها    من بينها تونس: 8 دول عربية تستقبل الخريف    تكريم درة زروق في مهرجان بورسعيد السينمائي    بنزرت: حجز أطنان من اللحوم والمواد الغذائية المخزّنة في ظروف غير صحية    لكلّ من فهم بالغالط: المغرب فرضت ''الفيزا'' على هؤلاء التوانسة فقط    عاجل: السجن لعاملين بمستشفى القصرين من أجل قضايا فساد ببنك الدّم    تدشين خط انتاج جديد لشركة القنوات بسوسة يوم الاثنين 22 سبتمبر الجاري    60 يوما فقط للمغادرة الطوعية.. إدارة ترامب تنهي وضع "الحماية المؤقتة" لآلاف السوريين    صرف الدفعة الأولى من المساعدات المالية بمناسبة العودة المدرسية في هذا الموعد    الكاف: قافلة صحية تحت شعار "صحتك في قلبك"    أكثر من 100 ألف تونسي مصاب بالزهايمر ومئات الآلاف من العائلات تعاني    ستة أشهر سجنا لشاب أشهر سلاحا ناريا مزيفا خلال فعاليات "أسطول الصمود"    الفيفا يتلقى 4.5 مليون طلب لشراء تذاكر مباريات كأس العالم 2026    الرابطة الأولى: برنامج مباريات اليوم و النقل التلفزي    لماذا يضعف الدينار رغم نموّ 3.2 بالمائة؟ قراءة معمّقة في تحليل العربي بن بوهالي    عاجل/ عقوبة سجنية ضد الشاب الذي صوّب سلاحا مزيّفا تجاه أعوان أمن    اليوم: استقرار حراري وأمطار محدودة بهذه المناطق    عاجل: تأخير وإلغاء رحلات جوية بسبب هجوم إلكتروني    بعد موجة من الانتقادات.. إيناس الدغيدي تلغي حفل زفافها وتكتفي بالاحتفال العائلي    وكالة إحياء التراث تحتفي باليوم العالمي للغة الإشارة تحت شعار "حتى التراث من حقي"    مسؤول إيراني: لم نصنع سلاحا نوويا حتى الآن لكننا نمتلك القدرة على تصنيعه    تركيا تعتزم إرسال مركبتين إلى القمر في عام 2029    "كنز القدس" يثير غضب إسرائيل.. وأردوغان يرفض تسليمه    منزل وزير الصحة الأمريكي يخضع للتفتيش بعد إنذار    القيروان.. 7 مصابين في حادث مرور    أمين عام الأمم المتحدة.. العالم يجب ألاّ يخشى ردود أفعال إسرائيل    استراحة «الويكاند»    في عرض سمفوني بالمسرح البلدي...كاميليا مزاح وأشرف بطيبي يتداولان على العزف والقيادة    تتويج مسرحي تونسي جديد: «على وجه الخطأ» تحصد 3 جوائز في الأردن    نفذته عصابة في ولاية اريانة ... هجوم بأسلحة بيضاء على مكتب لصرف العملة    ميناء جرجيس يختتم موسمه الصيفي بآخر رحلة نحو مرسيليا... التفاصيل    وزارة الدفاع تنتدب    28 ألف طالب يستفيدوا من وجبات، منح وسكن: شوف كل ما يوفره ديوان الشمال!    توقّف مؤقت للخدمات    الاتحاد الدولي للنقل الجوي يؤكد استعداده لدعم تونس في تنفيذ مشاريعها ذات الصلة    عفاف الهمامي: أكثر من 100 ألف شخص يعانون من الزهايمر بشكل مباشر في تونس    رابطة أبطال إفريقيا: الترجي يتجه إلى النيجر لمواجهة القوات المسلحة بغياب البلايلي    عائدات زيت الزيتون المصدّر تتراجع ب29،5 بالمائة إلى موفى أوت 2025    البنك التونسي للتضامن يقر اجراءات جديدة لفائدة صغار مزارعي الحبوب    أكثر من 400 فنان عالمي يطالبون بإزالة أغانيهم من المنصات في إسرائيل    بعد 20 عاماً.. رجل يستعيد بصره بعملية "زرع سن في العين"    مهذّب الرميلي يشارك في السباق الرمضاني من خلال هذا العمل..    قريبا القمح والشعير يركبوا في ''train''؟ تعرف على خطة النقل الجديدة    حملة تلقيح مجانية للقطط والكلاب يوم الاحد المقبل بحديقة النافورة ببلدية الزهراء    البطولة العربية لكرة الطاولة - تونس تنهي مشاركتها بحصيلة 6 ميداليات منها ذهبيتان    ما تفوتهاش: فضائل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة!    أغنية محمد الجبالي "إلا وأنا معاكو" تثير عاصفة من ردود الأفعال بين التنويه والسخرية    بطولة العالم للكرة الطائرة رجال الفلبين: تونس تواجه منتخب التشيك في هذا الموعد    سعيد: "لم يعد مقبولا إدارة شؤون الدولة بردود الفعل وانتظار الأزمات للتحرّك"    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    الرابطة المحترفة الاولى : حكام مباريات الجولة السابعة    وخالق الناس بخلق حسن    يا توانسة: آخر أيام الصيف قُربت.. تعرف على الموعد بالضبط!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نص محاضرة البابا بنديكت التي أثارت غضب المسلمين
نشر في الوسط التونسية يوم 16 - 09 - 2006

فيما يلي النص الكامل للمحاضرة التي ألقاها البابا بنديكت السادس عشر بقاعة المحاضرات بجامعة بون في 12 سبتمبر 2006 تحت عنوان "العقل والإيمان في التقاليد المسيحية والحاضر المسيحي"، والتي أثارت آراؤه بها عن الإسلام ردود فعل غاضبة في العالم الإسلامي، حيث أشار فيها -على لسان إمبراطور بيزنطي- إلى أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم جاء بأشياء كلها شريرة، وأن انتشار الدين بالسيف مناقض لطبيعة الله، وهو ما وجد ردودا احتجاجية عنيفة من المسلمين في أنحاء العالم.
وفيما يلي نص هذه المحاضرة*:
"إن اللقاء بين الإيمان الإنجيلي والفلسفة الإغريقية كان على قدر كبير من الأهمية ليس من جهة موقف تاريخ الأديان، بل ومن جهة التاريخ العالمي".... تذكرت ذلك العهد (بالتدريس والنقاش) بين الزملاء قبل فترة، عندما كنت أقرأ نشرة البروفسور (عادل) تيودور خوري (من جامعة مونستر) لقسم من حوار (ربما جرى عام 1391 في الثكنات العسكرية الشتوية على مقربة من أنقرة) بين الإمبراطور (البيزنطي) العالم مانويل الثاني باليولوغوس، ومثقف فارسي (مسلم) في موضوع المسيحية والإسلام، والحقيقة المتضمنة في كل منهما.
وربما كان الإمبراطور نفسه هو الذي سجل ذلك الحوار خلال حصار القسطنطينية بين العامين 1394 و1402، وهذا ربما يعلل سبب ذكر حججه بالتفصيل، دونما اهتمام لافت بإجابات العالم الفارسي. والحوار يتوسع إلى ما وراء حدود البنى العقدية في الإنجيل والقرآن، ليركز بخاصة على صورة الله والإنسان، راجعا عندما يكون ذلك ضروريا، إلى العلائق بين "الشرائع الثلاث": العهد القديم والعهد الجديد والقرآن.في هذه المحاضرة أريد أن أناقش نقطة واحدة ربما كانت هامشية في الحوار المذكور نفسه هي سياقات علاقة "الإيمان والعقل" وقد وجدت أنه من الممكن أن يكون ذلك السياق الحواري مفيدا في تأملاتي حول المسألة.في المحادثة السابعة (من الجدال...) والتي نشرها البروفسور خوري، يعالج الإمبراطور موضوع الجهاد (الحرب المقدسة).
ومن المؤكد أن الإمبراطور كان يعرف الآية القرآنية (2:256) والتي تقرر أنه "لا إكراه في الدين". وسورة البقرة هذه إحدى السور القرآنية المبكرة، عندما كان (النبي) محمد ما يزال بدون قوة ونفوذ، وواقعا تحت التهديد، لكن من الطبيعي أن يكون الإمبراطور عارفا بالتعاليم الإسلامية التي تطورت فيما بعد وسجلها القرآن، بشأن الحرب... وبدون مقدمات تفصيلية حول الفروق في التعامل مع "أهل الكتاب" والآخرين "المشركين"، يلتفت الإمبراطور إلى محاوره بشكل مفاجئ وقاس طارحا السؤال الأساسي في العلاقة بين الدين والعنف بشكل عام؛ يقول الإمبراطور: "أرني ما هو الجديد الذي أتى به محمد، وسوف تجد أشياء كلها شريرة وغير إنسانية، من مثل أمره بنشر الدين بالسيف".
ثم يمضي الإمبراطور شارحا بالتفصيل الأسباب التي تجعل من نشر الإيمان بالعنف تصرفا غير عقلاني، لا يتفق العنف مع الطبيعة الإلهية، ولا مع طبيعة الروح: "لا يحب الله سفك الدم، والتصرف غير العقلاني مُناقض لطبيعة الله". فالإيمان يبزغ من الروح وليس من الجسد، بيد أن الذين يريدون نشر الإيمان، "يحتاجون إلى قدرة على الحديث الجيد، والتأمل بعقل، وبدون عنف وتهديدات... ومن أجل إقناع روح عاقلة، لا يحتاج المرء إلى ذراع قوية، ولا إلى سلاح من أي نوع، كما لا يحتاج إلى تهديد أي شخص بالموت...".إن الحجة البارزة في هذا الجدال ضد الإرغام على الإيمان أن الداعية الذي يتصرف بخلاف العقل، إنما يتصرف بخلاف طبيعة الله. ويلاحظ البروفسور خوري معلقا: بالنسبة للإمبراطور البيزنطي ذي الثقافة الفلسفية الإغريقية؛ فإن هذا الأمر بديهي.
أما في تعاليم الإسلام فإن الله سبحانه متعال علوا مطلقا، كما أن إرادته ليست مقيدة أو متعلقة بأي مبدأ آخر بما في ذلك مقاييس العقل نفسه. وهنا عاد خوري للاقتباس من دارس فرنسي معروف للإسلاميات هو روجيه أرنالديز ذكر عن ابن حزم (الأندلسي) أن الأخير ذهب بعيدا في (تنزيه) الله إلى حدود القول إن الله سبحانه ليس مقيدا حتى بكلمته (أي بوعده ووعيده)، وليس هناك ما يوجب عليه حتى إنزال الوحي وإرسال النبيين، وهو عز وجل إن شاء، وبمقتضى هذا الفهم، فقد تكون عبادة الأوثان داخلة ضمن المشيئة الإلهية.إن التحدي الذي واجه اللاهوتيين القدامى، وهو ما يزال يواجهنا حتى اليوم: هل الاعتقاد بأن العمل غير العقلاني يناقض طبيعة الله هو مجرد فكرة إغريقية أو أنها حقا وواقعا صحيحة دائما، وأنا أرى أنه في هذه المسألة بالذات يمكن الوصول إلى وجود تناغم بين القناعة الإغريقية والفهم الإنجيلي للإيمان بالله.
وإذا عدنا إلى الجملة الأولى في سفر التكوين بحسب يوحنا نجد (في البدء كانت الكلمة "اللوغوس"، وكان الكلمة الله): فالله يعمل باللوغوس واللوغوس يعني العقل والكلمة.. وهو العقل القادر على التواصل، التواصل بذاته باعتباره عقلا. وهكذا فان يوحنا قال القول النهائي في الفهم الإنجيلي لله، وفي هذه المقولة تتلاقى كل خيوط وخطوط الإيمان الإنجيلي.يقول يوحنا الرسول أنه في البدء كان اللوغوس، واللوغوس هو الله، وهذا اللقاء بين الرسالة الإنجيلية والفكر الإغريقي ما حدث بالمصادفة.
ففي رؤيا بولس الرسول بعد أن وجد طرق آسيا مسدودة، أن إنسانا مقدونيا أتاه في المنام وقال له: "تعال إلى مقدونيا وساعدنا"!وقد عنت تلك الرؤيا أن هناك ضرورة للتقارب بين الإيمان الإنجيلي والتساؤل الإغريقي. وفي الواقع فإن ذلك التقارب كان جاريا منذ بعض الوقت، فاسم الله، الذي تجلى من شجرة العليق المشتعلة، يفترق عن سائر التأليهات الأخرى مهما اختلفت أساميها. إنه هو، هكذا ببساطة.وهذا تحد لمصطلح الميث (الأسطورة) الذي حاول سقراط اختراقه، والتسامي فوقه في قياس مقارب.
وفي العهد القديم اكتملت العملية التي بدأت في العليقة المشتعلة، خلال السبي، الذي عنى تجردا عن الأرض والمعبودات، حيث هو الله رب السموات والأرض: أنا الله، وهذا الفهم الجديد الخالص لله ترافق مع قدر من التنوير، الذي وجد تعبيره الخاص والقوي بالتبرؤ من الآلهة الأخرى، التي هي من صناعة البشر... وقد حدث بذلك التلاقي النهائي بين إله الإنجيل، والفكر الإغريقي الراقي؛ فكان ذلك الإثراء المتبادل في أدب الحكمة المتأخر...(ويفضل البابا هنا في حيثيات اللقاء بل والتطابق في الترجمة الإسكندرانية للعهد القديم إلى الإغريقية).. وصولا للإمبراطور مانويل الثاني وجدلياته، والذي صار قادرا على القول: إن لم تعمل بحسب "اللوغوس" فإن ذلك مخالف لطبيعة الله (عز وجل).إن الذي أريد تقريره بكل أمانة هنا أننا نجد اتجاهات في لاهوت العصور الوسطى تتنكر لهذا الامتزاج أو التلاقي بين الروح الإغريقي والروح المسيحي.
فبخلاف العقلانية التي عرفها أوغسطين وتوماس، ظهر أناس مثل دونز سكوتوس ينصرون إرادوية تقول إننا لا نستطيع معرفة الله إلا بالإدراك المباشر أو الغريزة. ذلك أن حرية الله تقع فيما وراء أو فوق ذلك، حيث قد تكون أفعال الله مناقضة لكل ما سبق أن فعله! وهذا التوجه يبلغ آفاقا تشبه تلك التي تحدث عنها أو تصورها ابن حزم (يسميه البابا دائما خلال محاضرته: ابن حزن)، وهي صورة تجيز على الله سبحانه أن يفعل ما قد لا يتفق والخير والحقيقة.
فتعالي الله وغيريته المطلقة هما من السموق، بحيث إن عقلنا أو إدراكنا للحق أو للخير لا يعودان مرآة لله، الذي يبقى جل وعلا غير مدرك خلف غاياته الفعلية. وبخلاف ذلك، فإن إيمان الكنيسة ظل يؤكد دائما أنه بين الله والإنسان بين الخالق الأبدي وعقلنا المخلوق، هناك دائما قياس حقيقي. وبحسب هذا التوجه فإن الاختلاف أو اللااشتراك يبقى قائما، ولكن ليس إلى حدود إلغاء القياس ولغته.
إن الله سبحانه لا يصير مقدسا أكثر، إذا أبعدناه عنا في إرادوية مفرطة.فالله هو الوجود الذي يفصح عن نفسه باعتباره لوغوس وهو باعتباره كذلك يتقبلنا بحب: ولا شك أن الحب "يتفوق" على المعرفة. ولذلك فهو قادر على التحقق أكثر من تفكيرنا نفسه. وهكذا فالإيمان المسيحي هو في تناغم مع الكلمة الأبدية ومع عقولنا.إن هذا اللقاء بين الإيمان الإنجيلي والفلسفة الإغريقية، كان على قدر كبير من الأهمية ليس من جهة موقف تاريخ الأديان، بل ومن جهة التاريخ العالمي. وهو أمر ما يزال يهمنا حتى اليوم.
وبالنظر لهذا المشيج فإن المسيحية بالرغم من أصولها وتطورها البارز في المشرق، اتخذت سيرها ومصيرها وطبيعتها في أوروبا. ونحن نستطيع أن نعبر عن ذلك بأن هذا المشيج، مضافا إليه الميراث الروماني، صنع أوروبا، وهو يبقى التأسيس الذي يعبر بالكامل عن الذات الأوروبية. وهذه المقولة التي تذهب إلى أن الميراث الإغريقي المصفى يشكل جزءا جوهريا من الإيمان المسيحي تصادمه عمليات "نزع الهلْيَنة" عن المسيحية، وهي العملية التي سيطرت في النقاشات اللاهوتية منذ بدء الأزمنة الحديثة.ويمكن تتبع العملية المذكورة وقسمتها إلى ثلاث مراحل، تترابط فيما بينها، لكنها تظل ممكنة التمييز والتمايز في الدوافع والأهداف.بدأت المرحلة الأولى من عمليات "نزع الهلْينة" في زمن الإصلاح بالقرن السادس عشر.
وقد نظر الإصلاحيون في التقليد اللاهوتي السكولائي فوجدوه مرتبطا تماما بالفلسفة. ورأوا أن نظام الإيمان هذا ارتبط بمقولات فكرية غريبة عنه. وقد بحث هؤلاء عن الأصل الطهوري للإيمان المسيحي كما يوجد أو يدرك في الكلمة الإنجيلية. فالميتافيزيقا بحسب هذا الإدراك بدت فكرة مسبقة مأخوذة من مصدر آخر، ويكون على الإصلاح أن ينحيها عن المصدر الإلهي وكلمة الله بحيث تعبر الكلمة عن نفسها. وعندما قال عمانوئيل كانط إنه مضطر لوضع الفكر جانبا ليفسح المجال للإيمان، فإنه كان يضع برنامجا راديكاليا، ما رأى الإصلاحيون أنفسهم آفاقه الشاسعة.لقد وضع الإيمان في العقل العملي، منكرا علاقته بالواقع بشكل عام.
وجاءت المرحلة الثانية في القرنين التاسع عشر والعشرين. ومفكرها الأبرز هو أدولف فون هارناك وتلامذته الكبار. وعندما كنت طالبا في سنوات الشباب كان هذا النوع من اللاهوت مؤثرا أيضا في الكاثوليكية. وقد اتخذت العملية في هذه المرحلة منطلقا من كلام باسكال الذي أقام تمييزا كبيرا بين إله الفلاسفة، وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وقد كانت محاضرتي الأولى بجامعة بون عام 1959 عن هذا التطور.
ولا أريد العودة هنا لتلك التفاصيل. لكنني أريد أن أنبه إلى ما هو الجديد في تلك المرحلة من "نزع الهلينة". كان قصد هارناك العودة إلى رسالة المسيح خالية من تعقيدات اللاهوت، ومن الهيللينية: إن الرسالة الأولى للمسيح بحسب هذا الإدراك هي ذروة التطور الديني للبشرية. فقد وضع المسيح نهاية للاهوت العبادة لصالح الأخلاق. وفي المحصلة فإن المسيح هو أبو الرسالة الأخلاقية الإنسانية. لقد كان المراد التوفيق بين المسيحية المحررة من العناصر الفلسفية واللاهوتية ذات الطابع الفلسفي، لتقع في تناغم مع الإيمان بالمسيح وألوهيته والثالوث الإلهي.
وبذلك فإن الطريقة التفسيرية التاريخية النقدية للعهد الجديد أعادت للاهوت مكانته بالجامعة. فاللاهوت عند هارناك شديد الأهمية من الناحية التاريخية، ولذلك يجب أن يبقى "علميا" ومن خلف هذا الإدراك أو هذا الفهم يبرز التحديد المحدث للعقل والعقلانية كما عبر كانط في نقداته. لكنه ازداد حدة بالتدريج بسبب تأثير العلوم الطبيعية. ذلك أن المفهوم الحديث للعقل يجمع بين عنصرين: الأفلوطينية والتجريبية. وهي مقولة سادت في عصر التصنيع. وقد ترتبت على هذا التفسير نتيجتان: كل موضوع يخضع للرياضيات وللعناصر التجريبية هو موضوع علمي.
والنتيجة الثانية أن هذا النزع للغطاء الفلسفي يتجاهل الله ويتجاهل الأخلاق، وما عادت العلوم الحديثة بناء على هذه النظرة ترتبط بذلك.... ولننظر قبل الخاتمة في التطور الثالث وتطورات "نزع الهلينة" والذي يجري اليوم. في المرحلة الأولى قيل إن الهلينة هي مرحلة ينبغي تجاوزها، وفي المرحلة الثانية قيل بضرورة العودة للرسالة الصافية والبسيطة للمسيح وتجربته. وكلتا النقطتين تستحق نقاشا حاميا. فالعهد الجديد كتب باليونانية، ويحمل الروح اليونانية. والتصغير من هذا الأمر أو ذاك باسم العودة للعهدين من جانب المسيحيين يفقد المسيحية روحها الباحثة، وقدرتها حتى على اعتناق الحداثة.ولنصل إلى الخاتمة.
إن نقد العقل الحديث لا ينبغي أن يفهم باعتباره عودة إلى الوراء، إلى ما قبل عصر التنوير، ورفض منجزات الحداثة. فنحن نقر بمنجزات العلوم المتطورة وما جلبته للبشرية من خير وتقدم. وهكذا فلا ينبغي فهم دعوتنا باعتبارها أثرا من الماضي، بل هي سبيل من سبل العقل وكيفية وضعه موضع الحياة العملية. وفي الوقت الذي نقر فيه بإنجازات الحداثة ونقدر خدماتها للإنسانية، نرى الأخطار الصادرة عن المرجع ذاته، كما نرى أملا كبيرا في إمكانيات المراجعة والتفسير.لا بد أن نستشرف حماسا أكبر في الخروج من التلقائيات والإرادويات، وإلا ضرب الدين، وضربت المعاني العميقة المرتبطة به. والذين كانوا يتجاوزون هم الذين عادوا يقرون بأن الدين ضروري اليوم. وقد رأى الغربيون من قبل أن العقل العملي والأشكال الفلسفية المبنية عليه هي الظاهرة العلمية من غير منازع.
والذين يرون أن العقل ينبغي أن يعمى ويضعون الدين بمنزلة الثقافات الشعبية هؤلاء لا يستطيعون ممارسة حوار الثقافات. إن العقل العلمي الحديث يكون عليه أن يقبل البنى العقلانية الموضوعة للتراتبية بين العقل والإيمان، بين الروح والدين والله.وأريد هنا أن أذكر بما قاله سقراط لفيدون، وكانت عدة مقولات خاطئة قد مرت في بداية حديثهما: سهل على أي أحد سمع مقولات فاسدة إلى هذا الحد، أن يبقى طيلة حياته لا داريا ويسخر من الآخرين، لكنه يكون حينها قد حرم نفسه من سؤال حقيقة الوجود، وسيقاسي في حياته كثيرا من وجوه سوء الفهم والتقصير.
ولقد ظل الغرب طويلا يتجنب فعلا الكثير من الأسئلة الأساسية، تارة بحجة أنها ليست غربية، وطورا بأنها غربية أكثر من اللازم: وأن تتصرف بخلاف العقل بحسب مانويل الثاني يعني أنك تتصرف بخلاف طبيعة الله. فلنقبل على الحوار وستظهر المشكلات تباعا، ويمكن البحث عن علاجات رحبة ومشتركة لها، دونما إزعاج.
* هذه المحاضرة ألقاها البابا بنديكتوس السادس عشر بقاعة المحاضرات بجامعة بون في 12/9/2006. وقد اختصرت المقدمة وبعض التفاصيل بداخلها وفي الخاتمة لعدم تعلقها بالموضوع؛ وفيها يروي البابا بدء علاقته بجامعة بون (ألمانيا) عام 1959 أستاذا للاهوت الكاثوليكي. وفي الجامعة المذكورة كليتان إحداهما للاهوت الكاثوليكي والأخرى للاهوت البروتستانتي. وقد انشغل البابا في التمهيد للمحاضرة بالعلاقة مع الزملاء البروتستانت في ذلك الزمان.
**عادل تيودور خوري: من أصل لبناني، وهو أستاذ متقاعد بجامعة مونستر الآن. وقد بدأ حياته العلمية بعمل كبير عن "الجدالات البيزنطية ضد الإسلام في القرن التاسع الميلادي" وتابع نشراته للنصوص اللاهوتية اليونانية واللاتينية بشكل متقطع. وله أعمال كثيرة عن العلاقات الإسلامية المسيحية، وعن الإسلام؛ منها عمل عن التسامح في الإسلام.وقد كتب تفسيرا للقرآن الكريم (بالألمانية) في اثني عشر مجلدا اختاره من أمهات كتب التفسير.
*


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.