لم يكن عبد الوهاب المسيري أول من تحدَّث عن مأزق الإنسان في عالم الحداثة وإنما تناوله العديد من الفلاسفة، خاصة أعضاء المدرسة النقديّة؛ فهو يتقاطع في طرحه مع (ماركيوز) و (هابرماس) و (إيريك فروم)، وغيرهم في تشخيص واقع الإنسان الحديث الذي يبحث عن جوهره وكينونته الضائعة في عالم التقنية والبيروقراطية والترشيد الأداتي. عبد الصمد الإدريسي-ثقافة وتجديد-الوسط التونسية: لا يمكن لمن يقرأ للمفكر المصري عبد الوهاب المسيري الذي فارقنا قبل أربع سنوات، إلاّ أن يقف على غزارة فكره وسعة اطلاعه بشكل قلّما يتوفّر مثيله. وتبيّن سيرته التي سمّاها "رحلتي الفكرية في الجذور والبذور والثمر" هذا الأمر، إذ يحسّ القارئ لها -إضافة إلى المتعة- برأسه مثقلاً بمواضيع مختلفة في الأدب و الفلسفة والاجتماع والفن والتاريخ والسياسة. سيجد نفسه أمام عملاق من عمالقة الفكر والثقافة بعقله الموسوعي والمبدع في نفس الوقت. تظنّ وأنت تقرأ له أنه يمتلك نهرًا من المعرفة الإنسانية يغرف منه متى يشاء. وكما يقول المؤرخ الأمريكي (كافين رايلي): "يقف عبد الوهاب المسيري في مصاف المنظّرين المبدعين..جنبًا إلى جنب مع أسماء مرموقة من قبيل "ابن خلدون" و(ماكس فيبر) و(إميل دوركهايم). وكما فعل سابقوه اللامعون استخدم "المسيري" عقلية واسعة المدى، وتعليمًا أدبيًّا عريضًا، وطاقة هائلة كي يقدم إنتاجًا نظريًّا ثريًّا، ويتناول بعضًا من أهم قضايا عصره.." إلاّ أنه من خلال هذا التنوّع والتعدّد في المواضيع التي طرقها "المسيري" تظهر الوحدة بشكل ظاهر عند "المسيري" الذي فضّل استخدام النماذج التفسيرية في تحليل الظواهر، والحديث دومًا عن الرؤى و الخلفيات الكامنة وراء الظواهر والأشياء. ويمكن اعتبار موضوع الإنسان موضوعًا محوريًّا في فكر "المسيري". وهو الذي يعتبر أن الموقف من الإنسان هو حجر الزاوية لكل أفكار العالم. فكل حديث عن: كيف ينبغي أن يحيا الإنسان؟ يقودنا إلى الحديث عن مفهوم الإنسان وأصله. ولذلك فقد جعل "المسيري" من موضوع الإنسان والدفاع عنه مرجعية يعود إليها في كتاباته كلّ حين. واهتمام "المسيري" الخاص بموضوع الإنسان في عالم الحداثة هو ما سنعرض له في هذا الصدد. أتصور "المسيري" يستعيد صورة الفيلسوف الإغريقي (ديوجين) الذي كان يخرج حاملاً مصباحًا في وضح النهار. وحين سألوه قال: "أفتش عن إنسان". كذا كان "المسيري". فبغض النظر عن كلمة الإنسان التي تتكرر في صفحات كتبه على اختلاف مواضيعها (وهذا أمر دالٌّ أيضًا)، فإنه لا يفتأ يسقط في الحديث عن موقف النموذج الفلاني من الإنسان أو عن معاداة المدرسة الفلانية له. لقد شكّل موضوع الإنسان قلقًا بالنسبة لهذا المفكر الذي وجد نفسه يومًا ماركسيًّا يستعصي عليه أن يستوعب الكينونة الإنسانية المتفردة بأبعادها المتجاوزة من خلال هذا الفكر المادي. واستمر هذا النزوع نحو الإنسان كبوصلة لم تطبع كتاباته وأبحاثه فحسب، وإنما قلبت خلفيّته الفلسفيّة، وغيّرت مسار حياته الفكرية والنضالية. لينطلق من خلال المنظومة التوحيدية التي آمن بها للدفاع عن الإنسان وقيمته ضد النزعات المادية والنفعية والاستهلاكية المعادية للإنسان. هذه القيمة المركزية للإنسان جعلت "المسيري يعتبر الإنسان معيارًا لقياس التقدم الذي تدّعيه الحضارة الحديثة. وذلك منذ عصر النهضة الذي ساهمت فيه بقوة الحركة الإنسانية وإلى عصر الحداثة وما بعدها. فقد جعل مفكرو عصر النهضة من الإنسان معيار المعرفة الحقيقية ومركز الفكر وغاية الفعل، ثم لم يلبث أن خرجت الحركة الإنسانية عن مسارها نتيجة فهمها المغلوط للإنسان. وهكذا بدأت الحداثة على النمط الغربي بادّعاء الإعلاء من شأن الإنسان؛ إذ وضعت الإنسان في مركز الكون وتبنّت منظومات أخلاقية مطلقة تنبع من الإنسان باعتباره كائنًا متميّزًا ومختلفًا عن الطبيعة/المادة، سابقًا عليها وله معياريّته ومرجعيّته وغائيّته الإنسانيّة المستقلة عنها. ولكن هذه الرؤية الإنسانية تطوّرت من خلال النسق المادي الذي يساوي بين الإنسان والطبيعة ومن خلال تصاعد معدّلات العلمنة والترشيد الإجرائي حسب مفهوم (ماكس فيبر)، وانفصال العلم والتكنولوجيا عن القيمة، وانفصال كثير من مجالات النشاط الإنساني(الاقتصاد، السياسة، الفلسفة، العلم) عن المعيارية والغائية الإنسانية، إلى أن فقد الإنسان مركزيّته وإطلاقه وأسبقيّته على الطبيعة/المادة وتحوّل إلى جزء لا يتجزأ منها، وأصبح هو الآخر مادة بدون مرجعية ولا غائية ولا إنسانية. ويصف (ميشيل فوكو) هذه النهاية حين يقول: "لا يسع المرء إلاّ أن يقابل بضحك فلسفي كلّ من لا يزال يريد أن يتكلم عن الإنسان وعن ملكوته وعن تحرّره. فسيضمحلّ الإنسان مثل نقش على رمال الشاطئ تمحوه أمواج البحر. بدأ العالم من دون الإنسان وسينتهي من دونه. وما يتأكد من أيامنا هذه ليس غياب الإله أو موته بقدر ما تتأكد نهاية الإنسان". إن نبوءة "ميشيل فوكو" بنهاية الإنسان كنقش على رمال الصحراء تمحوه أمواج البحر، في نظر "المسيري"، ليست قضية عارضة على المنظومة الغربية. بل هي من صميم بنيتها الداخلية ونتيجة طبيعية للنموذج الغربي وموقفه من الإنسان. فالمشكلة كامنة في الرؤية المعرفية المتحكمة، والنموذج الكامن في الحضارة الذي يكشف تتبّع مساره أنه كان يطرح مفهوم الإنسان دائمًا على نحو مشروخ، بفواصل واجتزاءات متضادة تنفي إمكانيات التداخل والتمفصل الواجب استحضارها في كل رؤية للإنسان تبتغي الشمول والإحاطة. فمفهوم الإنسان في المرجعية الدينية الغربية كان يطرح على نحو مجتزأ يفصل بين الروح والجسد، مع استهجان المكون الحسّي واحتقار مطالبه. ثم لمحاولة تجاوز هذا الإشكال تنتهي صيرورة تطوّر الثقافة الأوروبية في لحظتها الراهنة إلى توكيد الغريزة والجسد، فتسقط هي الأخرى في الرؤية التجزيئية القاصرة عن استيعاب الكائن الإنساني في كلّيته وتعدّد أبعاده. إن هذه الرؤية الناقصة للكائن الإنساني في الحضارة الغربية جعلت الحداثة الغربية عاجزة عن الوفاء بوعدها للإنسان؛ فقد افترضت أن بإمكانها جعل الإنسان قادرًا على التحكم في ذاته وفي واقعه، وأنها ستوصله إلى الحلول النهائية لمشاكله كافة: الاقتصادية والسياسية والفلسفية والنفسية. لكنها بسبب رؤيتها القاصرة لم تحقق وعدها للإنسان في العيش بسعادة أكبر، وإزالة أسباب الشقاء. بل إن هذا الفردوس الأرضي الموعود سرعان ما تحوّل إلى مصدر شقاء للجنس البشري لايزال ينتقص من كينونة الإنسان وقيمته. فوعد الحداثة إذن كان هو تأكيد مركزيّة الإنسان في الكون، ولكن تحقّقها تاريخيًّا أصبح يسير بخطًا حثيثة نحو موت الإنسان. هل معنى هذا رفض "المسيري" للحداثة الغربية، و فشل المشروع التحديثي ككل؟ يعترف المسيري أن المشروع الحضاري الغربي حقّق نجاحات أكيدة لا يمكن حصرها. وحصل رصيدًا هامًّا من نقاط القوة ومواطن التميّز. التي يمكن اعتبارها إبداعات مهمة، تضمن الإدارة الرشيدة للمجتمع، وتحقيق الحد الأدنى من الرفاه للإنسان الحديث، ووضع العديد من الضمانات الديموقراطية والحقوقية وغيرها، مما يشكل إسهامات حقيقية. فاحتمال إهمالها أو التغاضي عنها أو عدم إعطائها حقها هو احتمال غير وارد على الإطلاق. ولعله حقق هذه الانتصارات الباهرة على المستويين المادي والمعنوي بسبب مقدرته التعبوية والتنظيمية المرتفعة. وكذا بسبب العلمية-التكنولوجية التي يعتبرها (هابرماس) إيديولوجية العصر الحديث بدلاً عن المعتقدات والتبريرات التقليدية. وبتزايد معدلات التقنية والترشيد والأداتية تحوّل النجاح إلى أزمة خانقة؛ فها هو الإنسان الذي حوّل الأرض بأكملها إلى مادة خام للاستعمال والاستغلال والاستصناع، ونصب نفسه سيّدًا على الواقع، ها هو سائر إلى أن يتحول بدوره -وقد أطلق مارد التقنية من قمقمه بلا حساب- إلى مادة خام. وهذا المأزق هو النهاية الكامنة في الحضارة الحديثة التي يعتبرها "المسيري" مبنية على مرجعية فلسفية واحدية. حيث تطبق الصيغ الكمية والإجراءات العقلانية الأداتية على الإنسان إلى أن يتساوى الإنسان وعالم الأشياء والسلع. فتسقط المرجعية الإنسانية وتصبح الطبيعة/ المادة أو السوق/المصنع هي المرجعية الوحيدة النهائية. فتنتفي إنسانية الإنسان، وتعمل فيه آليات التشييئ والتنميط والتفكيك. لقد ألحق "المسيري" بمفهوم الحداثة وصفًا آخر لصيقًا بها، فهو يعرّفها بأنها الحداثة المنفصلة عن القيمة. التي يرى أنها هيمنت بالتدريج على كل مجالات الحياة. وأحكمت قبضتها، وأصبحت أساس الخريطة الإدراكية للإنسان الغربي الحديث. فأنتجت لنا إنسانًا جديدًا كل الجدة عن الشخصية التقليدية؛ فصورة الإنسان الكامنة في الحداثة المنفصلة عن القيمة هو الفرد صاحب السيادة الكاملة، مرجعية ذاته، والهدف من الوجود بالنسبة له هو تحقيق النفع الشخصي وتعظيم المتعة وزيادة اللّذة. فهو إما إنسان اقتصادي أو جسماني أو خليط منهما. لا علاقة له بالخير أو بالشر أو بأي قيم تقع خارج نطاق الحواس الخمسة!! وبهذا يفسر "المسيري" ظهور نزعات معادية للإنسان لا تعترف بكينونة بشرية ولا بقيم إنسانية متجاوزة للمادة. تحققت هذه النزعات في جرائم مروعة ضد الإنسان مثل الحرب العالمية وإلقاء القنبلة النووية وأفران الغاز والصهيونية وغيرها.. لم يكن عبد الوهاب المسيري أول من تحدَّث عن مأزق الإنسان في عالم الحداثة وإنما تناوله العديد من الفلاسفة، خاصة أعضاء المدرسة النقديّة؛ فهو يتقاطع في طرحه مع (ماركيوز) و (هابرماس) و (إيريك فروم)، وغيرهم في تشخيص واقع الإنسان الحديث الذي يبحث عن جوهره وكينونته الضائعة في عالم التقنية والبيروقراطية والترشيد الأداتي. إلاّ أنه يختلف عن هؤلاء بإيمانه أن هذه الأزمة لا يمكن تجازوها من داخل المنظومة الغربية نفسها. فهي كامنة فيها ولصيقة بنموذجها المعرفي. كما أن عبد الوهاب المسيري قد أثبتت نماذجه التفسيرية قدرة غير عاديّة على تفسير ظاهرة الإنسان من خلال فكرة التجاوز التي تعترف للإنسان بتجاوزه لأبعاده الماديّة وتشهد بتفرّده. أعيد النشر على الوسط التونسية بتاريخ 17 أكتوبر 2012