فيما نسعى وبأقصى ما نستطيع من جهد إلي توسيع دائرة الحرية وتأكيد ليبرالية المجتمع وقدرته على أن يفسح صدره لمختلف الأراء والتوجهات والاعتقادات نكتشف أن البعض هنا وعلي نطاق العالم يحاول اختطاف الليبرالية وتغيير مسارها إلي الاتجاه المضاد, تماما كمايفعل من يسمون بقراصنة الجو عندما يختطفون طائرة.. ويغيرون مسارها. ولكي تبدو المفارقة واضحة يتعين علينا أن نحدد وبشكل واضح معني الليبرالية. وكعادتنا دوما وعندما نقف أمام كلمة أعجمية محاولين أن نبحث عن مقابل لها باللغة العربية فإننا نلجأ إلي أبينا ومؤسس علم الترجمة إلي العربية الشيخ رفاعة الطهطاوي. فقد ترجمها إلي حرية ومنها حر وجمعها حريين. هذا عن الكلمة في ذاتها فماذا عن المضمون؟ نعود أيضا إلي القواميس. قاموس أكسفورد: ليبرالي أي متفتح الذهن, غير متعصب, منحاز للإصلاحات الديمقراطية. المعجم الفلسفي المختصر( وهو قاموس ماركسي النزعة): أصلها اللاتينيLiberalis أي حر وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر مثلث الليبرالية البرنامج الفكري للبرجوازية الفنية, ومع دخول الرأسمالية في طورها الامبريالي أخذت الليبرالية تدافع وباطراد عن تداخل الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية تحقيقا لنزعة إصلاحية إجتماعية المعجم الفلسفي( د. مراد وهبة): نظرية سياسية تري أن الحرية أساس التقدم فتعارض السلطة المطلقة وللقارئ أن ينحاز لأي تعريف يشاء. لكن ما يهمنا الأن هو تلك الهجمة المزدوجة التي تستهدف اختطاف الليبرالية لمصلحة أشد القوي عداء لها, وهي هجمة ذات مسارين الأول عالمي والاخر محلي. فعلي النطاق العالمي نكتشف أن فكرة العولمة تتحول بسبب من معطيات عسكرية وإقتصادية وسياسية إلي حالة تتسيد فيها دولة واحدة هذا العالم الذي يجري تعليبه في وعاء واحد بدعوي العولمة. ونكتشف أن أهم المنظمات العالمية الفاعلة سياسيا أو أقتصاديا أو حتي اجتماعيا( الأممالمتحدة مجلس الأمن صندوق النقد الدولي منظمة التجارة العالمية) تخضع وبشكل مباشر وعلني لأمريكا, وتتحدي أمريكا العالم في قضايا عديدة( الاحتباس الحراري المحكمة الجنائية الدولية معايير التجارة الحرة والتنافسية) وذلك كله ينفي فكرة العولمة القائمة علي أساس المصالح المتكافئة والمشتركة. وهو أمر يخلق حالة من التمرد الذي لم ينضج بعد في المجتمع العالمي ضد هذا النوع من العولمة. ويخضع عالم العولمة بتركيبتها الحالية إلي مجموعة من الثنائيات المتناقضة. * فالعالم الذي أصبح كما يقولون قرية تكنولوجية يكتشف أن التكنولوجيا التي وعدتنا بالوفرة والرخاء, قد زادت من نهم كبار المنتجين العالميين إلي أرباح تتصاعد بنسب خرافية وبالمقابل تتزايد معدلات الفقر والبطالة حتي في مناطق الثراء من هذا العالم. ويهيمن التكنوقراط برؤاهم الديجيتال وبأرقامهم المتوحشة في فرض قواعد تتنكر لحقوق الفقراء في العمل وفي الخدمات الاجتماعية ومن ثم تسعي بل وتقرر تخفيض مخصصات الخدمات الاجتماعية( تعليم صحة معاشات نهاية الخدمة حقوق العمل... إلخ) * وهذه العولمة الطاغية سياسيا تترجم اقتصاديا إلي فرض مقولة آليات السوق وينتظم ذلك في منظومات اجبارية مثل الجات. لكن هذه الفلسفة التي تقوم علي التمسك بمقولة آليات السوق المسببة لنفسها بنفسهاself-regulory في مواجهة الآليات التي تدعو للتدخل من أجل التخطيط الأمثل للاقتصاد وتصحيح أوحتي توجيه المسارMan-regulted, فإننا نجد أن أمريكا تتدخل في عديد من البلدان لتفرض سياسات وتوجهات في مجالات الاقتصاد والسياسة والعلاقات المجتمعية. ومثل هذه الثنائيات المتناقضة تضع علامات استفهام حول هذا الحديث المتكرر عن الدفاع عن الديمقراطية والليبرالية, بل وعن الادعاء بأن أمريكا هي سيدة هذه المسماة ب الليبرالية الجديدة.ولعل التسمية الأمثل في مجال السياسة والديمقراطية هي الليبرالية النقيضة وفي مجال الاقتصاد هي الاسم الذي اختاره الاقتصادي الرائد الراحل د. رمزي زكي الليبرالية المتوحشة. ويقتادنا ذلك إلي مانحن فيه هنا. فبرغم هذا التناقض في مجالات السياسة والديمقراطية( الانحياز المطلق لإسرائيل ضد الحق الفلسطيني الحرب في العراق وما كان أثناء العدوان علي لبنان) وبرغم هذا التوحش الاقتصادي فإننا نكتشف أن بعض منظمات المجتمع المدني وبعض الشخصيات الاجتماعية والسياسية وحتي بعض مراكز البحوث سواء ذات الثقل منها أوالخالية من أي ثقل تقرر سواء في الخفاء أوفي العلن اللجوء إلي أمريكا بحثا عن سند( ونترك جانبا مسألة التمويل حتي لانجرح أحدا) فهل هذا صائب؟ إذا ماعدنا للتاريخ... نجد أن ليبراليا مبرزا هو شبلي شميل وقف في مطلع القرن الماضي ضد رفض المصريين لمد امتياز قناة السويس والغريب إنه استخدم ذات مقولات العولمة حقوق الأمة أهم من حقوق الفرد وحقوق العالم فوق حقوق كل مملكة مدعيا أن سيطرة مصر علي قناة السويس يتعارض مع حرية التجارة ومع ليبرالية الاقتصاد وردا عليه كتب أحد المصريين مقالا ساخنا قال فيه في اليوم الوحيد الذي فازت فيه الامة علي الحكومة قمت ياحضرة العالم والفيلسوف تنتقد عملنا فدعنا في جهلنا ودع علمك لنفسك ويتأوه شميل شعرا فيا وطني ما خانني فيك خائن من الحب أو أني رضيت به ندا فإن جرت في حكمي فما أنا جائر وما أنا إلا باحث لم يجد بدا لكن جناية شميل لم تكن علي نفسه بل علي الليبرالية ذاتها, إذ وضعها أمام الجماهير نقيضا للوطنية. وأكاد ألمح اليوم ذات الشئ. ولعلنا إذا نتأمل نكتشف جماعات أومراكز أو أفراد من مثقفين وسياسيين يتطلعون إلي مجتمع حر وليبرالي ولكنهم لايجدون سبيلا لاشخصيا ولاجماهريا يتخذونه درعا أمام معاندة الطرف الاخر فيستقوون بالسيد الجاهز دوما للتدخل في الشأن الداخلي. وقد فعلها مصطفي كامل هو أيضا في مطلع القرن الماضي فلما استشعر ضعفا في قدرته علي التواصل مع الجماهيرلتسانده في معركته لجأ إلي فرنسا وكانت ثاني أكبر قوة أستعمارية في ذلك الزمان وصاح صارخا: أفرنسا يا من رفعت البلايا عن شعوب تهزها ذكراك انصري مصرأن مصر بسوء وأحفظي النيل من مهاوي الهلاك. وانشري في الوري الحقائق حتي تتجلي الخير أمة تهواك لكن فرنسا تخلت عنه عند أول منحني يحقق مصالحها, فلجأ إلي الجماهير التي منحته محبة وولاء أكثر مما توقع. نفس الشئ يجري الان.. البعض يستشعر ضعفا فيلجأ إلي أمريكا فترمقه الجماهير بالإنكار فيزداد ضعفا ومن ثم يزداد إنحناء ولا يتعلم الدرس ربما لأنه لايثق بالجماهير ولا هي تثق به. وتتحول الليبرالية علي يديه إلي مسخ غيرمقبول لأنه غير مقبول مصريا. وحاول التستر بالعولمة فلا تسعفه. ولا حل سوي الاكتفاء بالوطن وبالجماهير.. حتي لو تصور أن الرأي العام ليس قوة كافية للضغط أو للاحتماء بها. فالاحتماء بالأجنبي يزيد صاحبه ضعفا علي ضعف ويصمه ويصم الليبرالية معه بما لايليق. فليعودوا إلي ساحة الوطن أو ليبتعدوا عن التمسح بالليبرالية.