كثيرا ما يستشهد أخونا المهندس في الزراعة والأفكار الأستاذ عبد الله بها حفظه الله، بحديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، في بيان أهمية العمل السياسي وخطورة شأنه في حياة الناس من جهة الصلاح أو من جهة الفساد، فكان الإمام العادل على رأس السبعة الفائزين بظل الرحمان، المتربعين على عرش الفضيلة والنجاة بعد الأنبياء والرسل، لما يجريه الله على يده من خير ومصالح ومنافع وإقامة لأجزاء عظيمة من الحق والعدل والدين، وليس الإمام العادل في آخر المطاف سوى رجل سياسة كبير يمارس السياسة في أنبل صورها وأحسن مقاصدها. ويدبر أمر الناس بما يجعلهم أقرب للخير والصلاح وأبعد من الشر والفساد. والأصل فيمن ينخرط في مثل هذا العمل، أن يستحضر هذه المعاني الجميلة، وبأنه على ثغر عظيم، وبصدد القيام بوظيفة جليلة، لها وزنها المعتبر عند الله وعند الصالحين من عباده، وكأي عمل يقدم عليه المسلم، يهمه فيه تصحيح المقصد الذي جاء به، وصواب الممارسة بميزان الشرع، والعودة منه بغنيمة طيبة حلال وأجر وثواب موفورين لدار القرار. ولا شك أن الشيطان يعلم مراتب الأعمال، فيجتهد في إفساد أعظمها وزنا عند الله، فيأتي الناس من جهة نياتهم ومقاصدهم، أو من جهة أفعالهم وممارساتهم، فيستجيب الخلق لتزيينه ووسواسه وينصتون لدواعي الأهواء، وما تميل إليه النفوس من تجاوز الحدود والانفلات من الضوابط، فيقع الفساد العريض. ويفهم من هذا، لماذا كان أول فساد كبير وقع في الأمة هو الفساد السياسي، وأول عروة من عرى الإسلام اخترقها إبليس هي عروة الحكم. وإفساد السياسة يأتي من سبل عديدة، من بين أخطرها: إحجام الأمناء الأقوياء، وتهافت الضعفاء في الأمانة والكفاءة، أومن اختل عندهم الجمع بينهما، وأكثرهم جرما الخونة المنتهزون، الطامعون في توظيف الجاه والمال والسلطان في مزيد من المتاع غير المشروع، وأخذ ما ليس بحق. والصف المنطلق من المرجعية الإسلامية لممارسة الممكن في الدوائر السياسية لا يخلو من تلك الآفات وإن كان بحدة أقل، وبشكل متفاوت بين قلة متعففة وأخرى أكثر منها عددا يظهر في عيونها الطمع، وقد تزداد مع الزمن، إذا تأخر التنبه وتباطأ العلاج، غير أنه يمكن الحكم بأن الأمر في عمومه يغلب فيه الخير ومتحكم فيه، وأن دواعي انتصار المشروع الإصلاحي هي المحرك الرئيس للأغلب الأعم. والاجتهاد في التأطير والتعبئة والاستعداد، يستوجب بالإضافة إلى استنهاض الهمم وبعث الأمل وإذكاء الحماس، تنبيه المحجمين إلى حجم الخسارة في فوات ما لا يحصيه إلا الله تعالى من الأجر والثواب على مستوى الفرد، وحجم خسارة المشروع الإصلاحي إذا ساد جو الانسحاب والتخلف وإخلاء المواقع والغياب عن ساحة الفعل والعمل والتوعية والتبشير واستقطاب العناصر الخيرة، ورفض تولي المهام والمسؤوليات وقبول الترشح لها، الأمر الذي قد لا يختلف كثيرا في حكمه عن التولي عن الزحف، والقعود مع الخوالف، والرضا بالدون، والتثاقل إلى الأرض، وتعطيل نفير الإصلاح، وخدمة مشروع المفسدين الذين يودون من أعماق قلوبهم، زهد الصالحين في مواقع القرار أو مواقع مراقبة أهل القرار، وتقديم هدية ذهبية لمن يتربصون بهذا الشعب المسكين في معظمه، يودون الاختلاء بدينه وعقله وعرضه وماله ومجمل مصالحه، ليفعلوا في كل ذلك الأفاعيل. والسياسة بهذا المعنى المواجه للفساد جهاد عظيم لا يتخلف عنها سوى جاهل بقدرها، أو ضعيف ظالم لنفسه يحرمها التزكية بخدمة المحتاجين وتخفيف معاناة المكروبين وإبلاغ صوت المستضعفين ومجاهدة المجرمين ولصوص المال العام... وأما عن المتهافتين، فينبهون إلى معاني الزهد في متاع الدنيا الفانية الزائلة، بما في ذلك السمعة والمنزلة والمكانة والمنصب و الجاه والأسماء والألقاب، فما عند الله خير وأبقى، وعما قريب يكون الرحيل، ويأتي ما هنالك من سكرات وسؤال الملكين وأحوال القبر وحشر وميزان وحساب وصراط وجنة أو نار، فيبدو هذا الذي يتكالب عليه الناس تافها حقيرا لا يستحق ما يبذل من أجله من حرص وجهد، وتعلو الهمم لمنازل خدام الخير الزاهدين، الذين يعلو صوتهم يوم تنكس رؤوس المفسدين، ويقول الواحد منهم:" هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ ، إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ " فهو يعتز بنقاء صحيفته من المقاصد الرديئة ومن الأعمال المشينة، ومليئة بالصدق والوفاء والإخلاص والمجاهدة والجهاد لإعلاء كلمة الله بكل ما في وسعه مما هو مشروع،وواجب الوقت، يقف على الثغرة السياسية همه إقامة الدين بما يناسب مجاله وتخصصه، لا يلطخ وجهه ولا وجه حزبه بما يغضب الله، أو يؤذي المومنين المناضلين معه، يطيع مسؤوليه بالمعروف، ويحترم مؤسساته وأعرافه، يسدي النصح، ويشارك بإيجابية، ويعطي القدوة في السلوك وللالتزام، يبتغي وراء ذلك وقبله وجه الله و مرضاته، وموقعا متقدما في جنانه، وفوزا بمرافقة محمد وصحبه.