ماعلمت أبدا بأن العاقل يستفتى أو تطلب مشورته فيما اذا كان موافقا على وضع الحديد أو "الكباشتين" في معصميه ,لتأتي اجابته بعد ذلك بنعم : أنا موافق على ايداعي السجن وسلب حريتي ثم تعريضي لشتى أنواع الاهانة والمذلة وقبل ذلك استهلال الاستقبال في محلات وزارة الداخلية أو فروعها بماطاب ولذ من اللكم واللطم والسب والشتم والفلق والركل بل أحيانا الصعق وماشذ وفجر من الضرب والكسر وعمليات متوغلة في أساليب النصب ...,مثل هذا الاستفتاء مع الاجابة عليه بنعم لايمكن أن يقع الا في بلاد تنظر فيها الأنظمة الى مواطنيها ورعاياها بكثير من الاهانة والاحتقار والاستهتار...! أما الاجابة بصيغة نعم على مثل هذا الشكل الفاسد من الاستفتاءات فهو لايمكن أبدا أن يصدر عن العاقلين والأحرار ,بقدر ماأنه يصدر من المغفلين وأصحاب النوايا الساذجة من الذين يحبذ الشارع عندنا في تونس بتسميتهم ب"الدراويش" ... الشعب المصري لم يكن يوما درويشا ولاساذجا ولامغفلا حتى يستفتى حول تعديل للدستور يهدف لاباحة التنصت على مواطنيه ومراقبة مراسلاتهم ومن ثمة استباحة حياتهم الخاصة وتشريع الاعتقال بالشبهة دون حجة أو دليل ,مع اتاحة صلاحيات لرأس هرم الدولة من أجل احالة المتهمين على محاكم استثنائية وهي المحاكم العسكرية مع مايستتبع ذلك من تنقيحات ترمي الى الغاء الاشراف القضائي على العملية الانتخابية بمعنى اخر تزويرها دون حسيب أو رقيب ... ولاتحدثني بعد هذا عن منع تأسيس أحزاب على أساس ديني تلك الوصفة العجيبة الغريبة ,التي اهتدت اليها أنظمة تونس ومصر من أجل قطع الطريق على منافسة سياسية وانتخابية حقيقية بينها وبين تيارات سياسية ذات عمق بشري واجتماعي. واذا كنت في هذا الموضع ضد توظيف الدين من أجل تحقيق أغراض سياسية ومن ثمة التلاعب بموروث حضاري هو قاسم مشترك بين كل شرائح ومكونات المجتمع ,الا أنني لابد بأن أذكر بأن جوهر العملية الديمقراطية يكمن في عدم تدخل الدولة في مرجعيات الأحزاب الفكرية والحضارية وهو ماعنى الاعتراف بالتشكيلات السياسية طالما أنها لم تمارس العنف وتحرض عليه وطالما أنها أعلنت التزامها بأحكام الدستور والقوانين الأساسية للبلاد ومن ثمة احترمت قيم ومقدسات المجتمع ,ومن هذا المنطلق فان بلاد أوربا وأمريكا وهي معقل الديمقراطيات الغربية قد اعترفت بوجود أحزاب ذات مرجعية حضارية مسيحية ,فمالمانع عندنا من قيام أحزاب قانونية على أساس مرجعيات اسلامية تنافس ماعداها من التيارات والأحزاب والحركات ذات المرجعية اليسارية وماأكثرها لدينا في البلاد العربية ,حيث لم تعدم أقطار شمال افريقيا انطلاقا من مصر وصولا الى أقصى المغرب العربي حيث موريتانيا وجود أحزاب شيوعية واشتراكية لايتوانى البعض من قادتها في المجاهرة بالدعوة الى المادية الجدلية والدعوة الصريحة أحيانا الى اللادينية ,فحينئذ ليس عيبا أن تصرح بعض الأحزاب باعتزازها بالهوية الاسلامية وتعمل على استنباط برامج حياتية معاصرة وحداثية انطلاقا من فهم تقدمي ومتحرك وفاعل وناضج للاسلام كرسالة عدل وخير ورحمة وبر وتسامح واعتدال وتوسط وسعي دائب على اصلاح شأن الناس والارتقاء بحياتهم الدنيوية نحو الأفضل والأرقى بما يخدم مصلحتهم ومصلحة التعارف بين الأمم والشعوب . قصة الاستفتاء على تعديل الدستور في مصر أو بعبارة أخرى تمزيق الدستور من أجل تفصيل دستور جديد على مذاق صاحب المزرعة ,لم يكن أمرا مستغربا في ظل ماعرفه حكم الحزب الوطني من تراجع شعبي وانحسار سياسي ملحوظ ,أمام التفاف النخب الفاعلة والنقابات والحركة الطلابية حول مطالب حركة كفاية وعلى رأسها أشهر مطلب : لاللتمديد لاللتوريث .. عودة الحراك الى الشارع المصري بقيادة حركتي كفاية والاخوان المسلمين والتيار الليبرالي الذي يقوده أمثال د.سعد الدين ابراهيم ود.أيمن نور زعيم حزب الغد فرج الله كربه ,كان بمثابة كشف للمستور الرسمي في مصر المحروسة التي لم تعد تأبه بالقبعات السوداء التي يحملها عناصر الأمن المركزي من أجل ترهيب الجماهير وفرض التشريع بنص الدستور لمكافحة الاصلاح السياسي والدمقرطة والانفتاح والتداول السلمي على السلطة عبر التمويه بقانون مشبوه حمل تسمية مكافحة الارهاب ... أشواق الاصلاح تجمعنا اليوم في معركة نضالية مع شرفاء المحروسة أم الدنيا ,وهي تقول بصوت عال لا لتأبين الحرية والتداول السلمي على السلطة ,لا للتلاعب بأعلى وثيقة قانونية تضبط السلوك السياسي للسلطات الثلاث ,لا لخنق المجتمع ,لا للي رقبة الشعوب والاستئثار بمقدرات أمة على حساب الغلابى والمساكين الذين قدموا حياتهم لمذبح تنمية مصر وتونس وليبيا ...وسائر بلاد المنطقة العربية والاسلامية... معركة الاصلاح هي معركتنا جميعا ,نخوضها اليوم وبوسائل سلمية وبصدور عارية وبأساليب المقاومة المدنية من أجل كسر ارادة الطغيان والجبروت وفرض ارادة المجموعة الوطنية والأمة بعيدا عن الصنمية والفساد والتلاعب بمصالح الناس عبر الرشاوى والكذب والخداع واساليب الترهيب والتهديد ,وتعبئة الفقراء والأجراء والموظفين العموميين في الباصات من أجل الموافقة على وأد المجتمع ووضع الكلبشاب بين أيادي الأحرار تحت يافطة الاستفتاء على تعديل الدستور الذي يحق لنا وصفه بالاستفتاء على وأد أحلام الجماهير .. تحية لمصر المحروسة وشعبها البطل الذي يرفض الظلم ,وهو يقف صامدا متظاهرا في مدن القاهرة والاسكندرية والاسماعيلية وكل قرى وحارات الحرافيش كما حن للأديب الكبير نجيب محفوظ تسميتها ...,تحية لسجناء الحرية في كل من مصر وتونس وليبيا ومناطق الاحتلال ... وفي كل شبر من أرضنا العربية وهم يقاومون بأساليب مدنية متحضرة كل ألوان الظلم والقهر والتسلط مقدمين بذلك من أجسادهم وأرواحهم الطاهرة قربانا للقيم والمثل التي اجتمعت عليها شرائع الأرض والسماء ... تحية لمن خرج بوعيه من دائرة الفرج والبطن وزينة المال والأهل والولد ,من أجل أن يعانق قيمة الحرية ,وماأدراك مالحرية !,التي اذا سلبت اياها الشعوب تحولت الى قطعان من العبيد في أنظمة قروسطية لاتمت الى العقل والشرع بصلة ! تحية لك يامصر ياطيبة ,ياأرض ياطيبة ,وانها لمسيرة سلمية نضالية مظفرة باذن الله . تم النشر على صحيفة الوطن الأمريكية في عدد 28 مارس 2007+ميدل ايست اون لاين و المنارة للاعلام بنفس التاريخ . *كاتب واعلامي تونسي-رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية لمراسلة كاتب المقال يرجى الاتصال على : [email protected]