كانت تمثيلية متقنة الإخراج، لعب فيها الرئيس الإيراني أحمدي نجاد الدور الرئيسي مع خمسة عشر ممثلين في أدوار ثانوية، من تشخيص البحارة البريطانيين. و كما نعلم الآن، فقد استطاع هؤلاء متابعة المشهد كله مباشرة، من غرفة خلف المسرح. بعد عودتهم إلى الديار البريطانية، يكون بوسعهم لعب الدور الرئيسي لفترة من الزمن، إلا أن عرض أمس كان على الإطلاق عرض الشخصية الواحدة، أحمدي نجاد. مكن هذا النوع من المسرح السياسي، الرئيس الإيراني من حل الأزمة الإيرانية البريطانية دون أية إهانات، إذ أنه كان محتملا أن تؤدي الأزمة إلى تفجير تصاعدات خطيرة في الوضع. وقد تطلع الإعلام الدولي كله إلى شفاه أحمد نجاد، منتظرا ما ستفرج عنه. هذا مكن أحمد نجاد من فرصة الكشف مرة أخرى على كل ما يعتبره رياءً من الغرب تجاه إيران. هذا الغرب الذي يستغل حسب إيران نفوذه وقوته داخل مجلس الأمن الدولي، لفرض حظر تلو الآخر على إيران بسبب تخصيب اليورانيوم. تصر إيران على أن ما تقوم به هو لصالح أهداف سلمية، بالرغم من أن الغرب لا يصدق ذلك بتاتا، بل يعتقد تماما أن المقصود هو صنع القنابل النووية، وإن لم يكن له دليل قاطع على ذلك. بند منصوص عليه في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية التي وقعت عليها إيران. مجلس الأمن نفسه هذا، الذي أصدر توصية بعد أخرى ضد إيران بسبب برنامجها النووي، والذي لم يعترض أبدا على ما تقوم به إسرائيل، إسرائيل التي لم توقع على المعاهدة والتي تمتلك فعليا مائتي قنبلة نووية. مجلس الأمن نفسه هذا، كما يتذكر أحمدي نجاد، الذي لم يبد حركة حين هوجمت إيران في العام 1980، من طرف عراق صدام حسين الذي كان آنذاك صديقا حميما للغرب، ذاك الغرب وفي مقدمته الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا، الذي مد صدام حسين لمدة ثمان سنين كاملة بالسلاح والصواريخ و الغازات السامة، والتي أجبرت في النهاية إيران على الركوع. ان هذا الجزء من الندوة الصحفية التي قدمها، كان موجها أيضا للإيرانيين، الذين يغلب عليهم الشعور بالمقياسين اللذين تقاس بهما إيران، و للرأي العالمي أيضا. وبعد أن أثنى الرئيس بالأوسمة على اثنين من كبار الضباط في الحرس الثوري، كانا مسؤولين على التقاط البحارة البريطانيين من المياه الإيرانية واعتقالهم، حسب السرد الإيراني، حان الوقت لخاتمة مفاجئة، الموقف الشجاع في الإفراج عن البحارة. و بذلك، فان الرئيس الإيراني موضع الخلاف، تقمص في ضربة واحدة، دور الإنساني، المفاوض المعقول و السياسي المسؤول، والذي أبان في نفس الوقت على أنه لا يمكن الاستهزاء من إيران. إشارة واضحة للولايات المتحدةالأمريكية في حالة ما إذا كانت تنوي شن هجوم مسلح على تدشينات إيران النووية. أُنقذ اعتبار إيران بذلك، فقد تم الإفراج عن البحارة الإيرانيين دون أن تقدم بريطانيا على أي تنازلات رسمية، وهو ما رفضه رئيس الحكومة توني بلير من البداية. أما ما جرى في الكواليس، فسيظل سرا في الوقت الحالي على الأقل. لكن ليس الإفراج هذه الأيام بالذات، عن دبلوماسي إيراني اعتقل في فبراير الماضي في بغداد، من قبيل الصدف، و لا حصول السلطات الإيرانية على إذن بالسماح بزيارة خمسة سجناء إيرانيين، اعتقلتهم القوات الأمريكية في كردستان العراق في شهر يناير الماضي. حسب إيران، يتعلق الأمر بدبلوماسيين تابعين لقنصلية إربيل، إلا أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تقول إنهم ضباط من الحرس الثوري الإيراني. إلا ان إيران كانت ذكية بعد م ربطها رسميا بين هذه القضية وقضية البحارة البريطانيين، وبذلك فإنه رسميا أيضا، لم يحدث أي تبادل للأسرى يستحيل على بلير شراؤه، ولن يحدث. جاء الحل للازمة بسرعة فائقة، عندما سقطت زعامة المفاوضات في يد علي لرجاني، رئيس المجلس الوطني الأعلى للأمن في إيران. و يعتبر أيضا المفاوض الرئيسي في الاشتباك النووي بين إيران و الغرب ومجلس الأمن. يعتبر لرجاني منافسا للرئيس أحمدي نجاد داخل بنية سلطوية معقدة، تتصارع فيها مختلف الفرق مع بعض من أجل النفوذ. إلا أنه وفي آخر المطاف، فإن الزعيم الروحي آية الله خمينائي هو الذي يقرر. و كما يبدو فإن هذا الأخير قد قرر الآن أنه غالبا ما يسبب سلوك الرئيس أحمدي نجاد المجازف الذي لا داعي له، في عزل إيران في وقت يعتبر فيه هذا البلد في أمس الحاجة إلى أكبر عدد ممكن من الأصدقاء و الشركاء، ولدعم من طرف الرأي الدولي لتفادي أي هجوم محتمل على إيران. إلا أن المخرج من الأزمة كان بشكل لم يضطر فيه أحد إلى تقديم تنازلات رسمية و بذلك أيضا لم يُهن أي من الأطراف. باختصار، مثل نموذجي للدبلوماسية الدقيقة التي أنعمت على إيران بانتصار إضافي على مستوى العلاقات العامة. محرر شؤون الشرق الأوسط *