ما تشهده المنطقة المغاربية يكشف أنه يجب ألا يطمئن أي مجتمع لثوابته، حتى ولو بدت راسخة كالوسطية والاعتدال والعقلانية والحداثة، فكل الثوابت الإيجابية تحتاج بدورها إلى صقل وتكريس وتأكيد دائم. شهدت منطقة المغرب العربي مؤشرات تعلن بأنّ لسعها بنيران التطرف والإرهاب سيتخذ خطا تصاعديا وشاملا، وقد بدأت الأضواء تسلط بقوة على المشهد السياسي والأمني المغاربي بعد قيام الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية بسلسلة من العمليات الأمنية، التي خرجت من الجغرافيا الجزائرية لتصل الي تونس وموريتانيا والمغرب وحتى ليبيا، فالجماعة التي تأسست في الجزائر غيرت اسمها ليصبح "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي". ويعود بروز الجماعة كتهديد إرهابي جدي في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل الأفريقي إلى عام 2003، إذ بتاريخ 4 كانون الثاني/يناير من ذلك العام هاجم مقاتلون مسلحون في منطقة الأوراس الجزائرية في الصحراء الكبرى، الممتدة ما بين الجزائر والنيجر ومالي إلى موريتانيا، مجموعة من الجنود الأمريكيين زاروا الجزائر في إطار التعاون العسكري. وربما لم يكن مجرد مصادفة أن تعلن قيادة الجماعة في الفترة نفسها علاقتها بتنظيم "القاعدة"، كما أنه جاء في لحظة فاصلة في استراتيجية التنظيم لمرحلة ما بعد هزيمة حركة "طالبان" التي كانت توفر له الاستقرار في أفغانستان. ويجمع خبراء الإرهاب على أنّ انضمام أكبر تنظيم مسلح جزائري إلى "القاعدة"، وتغيير اسمه إلى "تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي"، سيخلقان تداعيات على الأمن في كل الدول المغاربية، وربما المناطق الأخرى المجاورة لها شمالا وجنوبا. وبالرغم من أنّ المعطيات تشير إلى أنّ سكان شمال غرب أفريقيا يتميزون باعتدالهم الديني، مقارنة مع سكان منطقة المشرق العربي، فإنه لا يمكن القول بأنّ المنطقة لم تتأثر بموجة الحركات الإسلامية التي عرفها الشرق الأوسط خلال سبعينيات القرن الماضي، خاصة بعد قيام الثورة الإسلامية الإيرانية. واليوم أضحى النشاط الإرهابي في المنطقة المغاربية يجمع بين التكتيك التقليدي، الذي تميل إليه الجماعة السلفية للدعوة والقتال، والنموذج المتطور الذي تعتمد عليه الخلايا الصغيرة، التي تنشط في الوسط الحضري والتي تتسم بارتباطها بالشبكات الدولية ذات الإيديولوجية المتطرفة. لقد لاحظ محللون عديدون أنّ خلايا الجماعة تحاول، منذ إعلان التحاقها رسميا بتنظيم "القاعدة" في نهاية السنة الماضية، التخلي عن الاستراتيجية السابقة التي كانت تعتمد على إدارة عملياتها الإرهابية انطلاقا من الجبال أو المناطق الريفية والمعزولة، والانتقال للعمل في المدن الكبرى، مما عزز القناعة بوجود رغبة في تحويل العمليات إلى "رعب" في وسط المدن، عبر تنفيذ عمليات استعراضية يكون لها صدى إعلامي كبير. ولعل قرب المنطقة المغاربية من القارة الأوروبية فيه ما يغري المجموعات الإرهابية الدولية بأن تجعل لها فيها قاعدة إرهابية، ولا يعنيها أن تدفع بلدان المنطقة الثمن من استقرارها وأمنها، إضافة إلى التأثيرات العاجلة والآجلة على مستقبل أجيال بأكملها. كما أنّ إعلان الإدارة الأمريكية خطة لإنشاء قيادة عسكرية أمريكية موحدة لأفريقيا قبل نهاية 2008، مقرها السنغال، ستكون إحدى أبرز مهماتها مكافحة الإرهاب، وبذلك تكون الجماعات المسلحة في المغرب العربي، وما لها من امتدادات جنوب الصحراء الأفريقية، قد سرّعت ميلاد الفرع الجديد لتنظيم "القاعدة"، لاسيما بعد خمس سنوات، ظلت فيها، على الأقل جغرافيا، بمنأى عن أشد العمليات العسكرية التي تستهدف التنظيم في آسيا. ويبدو أنّ الخطر الكبير الذي أضحى يشكله هذا التنظيم على الأمن العالمي، إضافة إلى المصالح الاقتصادية الأمريكية، هو الذي دفع الولاياتالمتحدة إلى تبنّي شراكة التصدي للإرهاب عبر الصحراء، وذلك من خلال دعم مجهودات الشركاء الإقليميين في تسعة بلدان هي: الجزائر وتشاد ومالي وموريتانيا والمغرب والنيجر ونيجيريا والسنغال وتونس. وتعتمد هذه الشراكة على تقديم المساعدة للمسؤولين الحكوميين والعسكريين من أجل وضع حد لنشاطات الإرهابيين في منطقة شمال غرب أفريقيا. ولا شك أنّ دلالات التنسيق، عبر الحدود، بين الجماعات المتشددة في المنطقة يستلزم رد فعل إقليميا يستند إلى روح عمل الفريق. إنّ المنطقة المغاربية في أمس الحاجة إلى تكامل حقيقي، لم تنجح السياسة في إنجازه على مر السنين، ولم تتمكن هياكل الاتحاد المغاربي من الدفع نحوه بطريقة عملية. ولعل التحدي الكبير، المتمثل في التصدي للإرهاب واجتثاثه من جذوره، قادر على أن يكون في هذه المرة قاطرة للاتحاد المغاربي نحو الإنجاز والعمل الملموس بعيدا عن الشعارات والتسويف. إنّ ما شهدته المنطقة المغاربية يكشف أنه يجب ألا يطمئن أي مجتمع لثوابته، حتى ولو بدت راسخة كالوسطية والاعتدال والعقلانية والحداثة. فكل الثوابت الإيجابية تحتاج بدورها إلى صقل وتكريس وتأكيد دائم، على اعتبار أنها ثوابت حية لا بد من تغذيتها بشكل واعٍ، خصوصا أنّ كل مجالات الاختراق أصبحت اليوم متوفرة وبكثرة، سواء من خلال الفضائيات أو تدهور الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية ذاتها، التي تجعل من الشباب المغاربي لقمة سائغة لعمليات غسل الدماغ، ولتبديد طاقتهم في خيارات الموت بدل الحياة. إنّ اعتماد مقاربة حقوق الإنسان في المعالجة الأمنية والقضائية لهذا الملف، والاهتمام أكثر بالجذور الحقيقية لظاهرة الإرهاب وعدم الاكتفاء بالقول إنها ظاهرة عالمية، ومعالجة الجوانب الفكرية في مجال مكافحة الإرهاب وتكريس الفكر العقلاني والحقوقي والديمقراطي على مستوى المؤسسات التعليمية وعبر كل وسائل الإعلام المتاحة، أصبحت ضرورية. إذ ينبغي صياغة مقاربة شاملة، تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الأمنية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية لحماية الشباب من هذا التكييف الإيديولوجي المتطرف والخطير الذي يجعلهم ينساقون بسهولة إلي حد قتل أنفسهم ومعهم آخرون. د. عبد الله تركماني* *كاتب وباحث سوري مقيم في تونس