عندما تقرأ الأدبيات العربية اليوم حول التقدم و الانخراط في دورة الحضارة و العولمة ومستحقات التنمية و تحليل أسباب الوهن و التخلف فانك ستدرك بلا شك بأن النخبة العربية مهما كانت انتماءاتها العقائدية و الثقافية و السياسية تبقى تدور في دوامة واحدة وهي دوامة التجاذب بين التأصيل و التحديث، والبعض يرى بأن التأصيل يأتي قبل التحديث و البعض الآخر يرى بأن التحديث مقدم على التأصيل. و يتحول الحوار بهذه الطريقة إلى جدل، والجدل إلى خصام و الخصام إلى تصادم، و ينفض جمع المثقفين بالسباب و الشتيمة والتخوين إلى حين ينعقد مؤتمر قادم، فتعود طاحونة الشيء المعتاد إلى الدوران في الحلقة المفرغة ! هذه حالنا منذ قرن و ما نزال: شتات من الأفكار و منظومات من الرؤى لم تهتد إلى خط التقاء، و أحيانا تنخرط الدول و المؤسسات الرسمية و الجامعات في الجدل بدون الخروج باتفاق، كأنما خلق العرب ليختلفوا دون سائر الأمم، في عالم توصل فيه سوانا إلى نقاط وفاق في قضايا أكثر تشعبا و بين فرقاء كانوا متحاربين فوحدوا مناهج تفكيرهم وتقاربت طرق تعبيرهم بما يقدم أممهم و يدفعها نحو البناء و المناعة و القوة. و أنا حين أقول منذ قرن فبالاعتماد على أن تاريخ صدور كتاب عبد الرحمن الكواكبي طبائع الاستبداد تم عام 1902 وهو النص الذي حلل ظاهرة القهر السياسي و الاجتماعي وارتباطها باتساع هيمنة الاستعمار و الجهل و التخلف في العالم العربي، كما أن التربص الصهيوني بالأمة العربية بدأ تقريبا في ذلك التاريخ و بدأ فعليا مع انعقاد مؤتمر مدينة بازل السويسرية لإنشاء الدولة اليهودية بزعامة المنظر الصهيوني الأول تيودور هرتزل سنة 1897، ثم إن تلك المرحلة شهدت أيضا تدشين عهد المقاومة في كل من المشرق و المغرب العربيين للمطالبة بالحريات و استعادة الهوية الإسلامية المهددة و استقلال الشعوب العربية عن الإمبراطوريات النصرانية. و تزامنت تلك المرحلة بالمؤامرات الكبرى ضد الوحدة الإسلامية مما خلده التاريخ منذ معاهدة سايكس بيكو إلى مخططات لورنس العرب وصولا إلى أحد الأهداف الرئيسة أي وعد بلفور عام 1917 و تقاسم تركة الرجل المحتضر التي تمت بإنشاء الجمهورية التركية عام 1924 و دخول العالم العربي في هجعة حضارية كرست غيابنا عن مواقع التأثير و التنمية و الإبداع. و اليوم نجد ذاتنا بعد قرن حافل بالكفاح ليس لدينا أجوبة عن الأسئلة التي طرحها على ضمائر أجدادنا عبد الرحمن الكواكبي، وهو مؤشر على أننا أخفقنا في الانخراط في عملية التقدم , ظللنا نراوح مكاننا لا نتحرك في عالم يتحرك بسرعة مدوخة و تتدافع فيه الأمم من أجل التفوق و السبق و الطليعة. و أحسب و الله أعلم بأن العطل الحاصل في ماكينة الحضارة العربية هو ذلك الخلل العميق بين الداعين الى تحديث بدون تأصيل و بين الداعين الى تأصيل بدون تحديث. وهو خلل حفر مع الزمن تدريجيا خندقا سحيقا من سوء التفاهم و حوار التطرفات و جدل المتناقضات. و أعتقد بأن الاحتقان الحاصل في المجتمعات العربية الراهنة سببه الظاهر هو عدم التوفيق في تحويل الرصيد الإسلامي الحضاري الثري إلى منظومة قيم و مبادئ و أصول ننطلق منها لا من غيرها لبناء التقدم و تركيز التنمية و ولوج أبواب العصر. و هذا نراه مشروعا ناجحا في بلاد مسلمة مثل ماليزيا و بدأنا نراه بفضل جهود الملك الشاب محمد السادس في المغرب، و لدى غير المسلمين شهدنا على صعود نجم اليابان كقوة حقيقية جمعت بين تأصيلها و تحديثها و أصبحت تنافس القوى العظمى دون أن يتخلى الياباني عن تقاليده و دينه و عن طاعة الابن لأبيه و تقدير الزوجة لبعلها. و لنا هذه الأيام في الثورة الديمقراطية لأمريكا الجنوبية مثال ساطع اخر، حيث انتخبت شعوب فينزويلا والشيلي و البرازيل و كولمبيا و بوليفيا رؤساء من الاتجاه الغيفاري الاشتراكي المسيحي، و قريبا تلتحق البيرو و المكسيك بالقافلة في يوليو القادم، في عاصفة من عواصف التاريخ الحديث فاجأت مراصد الولاياتالمتحدة و تكهناتها. و ما يميز هذه الأنظمة الجديدة في أمريكا اللاتينية هو تأصيل توجهاتها في السياسة و الاقتصاد و الثقافة مع انفتاحها التحديثي على العالم و على الغرب و على أمريكا الشمالية في غير خنوع أو استلاب. وحدنا نحن العرب ظللنا نتخاصم مع هويتنا بل و نستأصل جذورها رافعين شعار التحديث كأنما الحداثة عدوة الجذور، وذلك مبغاة رضى أسيادنا الغربيين علينا كأننا لقطاء حضارة أو أيتام مجد، بينما نحن نفرط في كنزنا الثمين من الطاقات المبدعة التي أصبحت في الشتات ضاربة في أرض الله تعمل في الجامعات و المختبرات الغربية بعيدا عن مراتع صباها ومواطن عبقريتها الطبيعية. إن الحداثة بدون مراجعها الفكرية الأصيلة تتحول إلى عقائد فاشية و ممارسات نازية غايتها المادة و القهر بسحق إنسانية الإنسان الذي هو روح و عقل قبل أن يكون مجرد جسم بيولوجي. فالمرء ليس بهيمة ترعى الكلأ و تسعى بلا غاية لأن الله سبحانه كرمه بنعمة من أجل النعم و أعظمها شأنا حين جعله خليفة له في الأرض يعمرها لا بالمادة وحدها و إشباع حاجات الجسم كالدواب بل و قبل كل شيء بالروح و الحق و الفضيلة وهو ما عرفته الشريعة بالتطلع إلى ما وراء العرش.