في أول ظهور بعد توجيه الاتهامات.. ترامب يتعهد بهزيمة بايدن    قيادي جديد بحركة النهضة يدخل في إضراب جوع..    منوبة: توقّعات بتراجع صابة الحبوب ب9 بالمائة ومخاوف من تأثير الأمطار على جودة الحبوب    باجة: البرَد يلحق أضرارا كبيرة بالاشجار المثمرة بكلّ من باجة وتستور والسلوقية وتوقّعات بتساقط كميّات إضافيّة اليوم    ديوان الصناعات التقليدية ينظم مسابقة "أولمبياد الصناعات التقليدية"    هام: تنقيحات جديدة على برامج الصندوق الوطني للتشغيل.. وهذه الشروط وصيغ الانتفاع..    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج-الجولة11-الدفعة 1): النتائج و الترتيب    أمطار هذه الليلة بهذه المناطق..    قضية التهجم على وكيل الجمهورية بسيدي بوزيد.. 20 شهرا سجنا لسيف الدين مخلوف    قريبا…التذاكر الالكترونية للدخول إلى الملاعب    اقتراح ضريبة على الأثرياء بالدينار التونسي ...و هذه التفاصيل    إنتقالات: علي السعودي في قطر القطري .. واليوم الإمضاء الرسمي    رئيسة الحكومة تستقبل الأمين العام للمعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة على الانتخابات "IDEA"    انتحار معلم نائب..#خبر_عاجل    ماذا في لقاء نبيل عمّار برئيسة البرلمان الزّامبي ؟    الحرس الوطني يحذر من هبوب رياح رملية تحجب الرؤية    الطبوبي يدعو خلال مؤتمر العمل الدولي بجينيف إلى العمل المشترك للدفع باتجاه عدالة اجتماعية تتمحور حول الإنسان    إقلاع أوّل رحلة إلى البقاع المقدّسة من مطار صفاقس طينة الدولي    ماطر: احالة تلميذين وشخص اخر على القضاء من أجل الغش في امتحانات البكالوريا    قبلي: ايقاف صوماليين اثنين بتهمة تهريب افارقة عبر الحدود التونسية الجزائرية    هام : بلاغ مروري بمناسبة مقابلة الافريقي والاتحاد المنستيري    "فيتش رايتنغ" تخفّض من تصنيف تونس إلى "سي سي سي سلبي" (-CCC)    الرابطة الأولى: تشكيلة الترجي الرياضي في مواجهة النجم الساحلي    تركيا: قتلى وجرحى في انفجار بمصنع للصواريخ    المطربة سندة الصكلي ل«الشروق»: الأغنية التونسية تحتاج إلى الترويج !    الليلة نهائي أبطال أوروبا: قمة نارية بين السيتي والإنتر    بنزرت..مشروع تخرّج بالمعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا بماطر.. أوّل سيارة تونسية ل «السياحة»    مؤشرات    ضم ممثلا عن دولة سوريا اتحاد المعارض العربية يجتمع بقصر المعارض بصفاقس    من مهرجان المونودراما بالقصور وصولا إلى العاصمة...رعاة سمّامة يصنعون الفرحة والجمال بعبق التراث    برعاية أمريكية سعودية.. الاتفاق على وقف إطلاق النار لمدة 24 ساعة في السودان    وزير السياحة.. لاول مرة يتم تصدير أكثر من 350 مليارا من الصناعات التقليدية    الرابطة 1: الإفريقي والمنستيري لللّحاق...والنجم أمام الترجي لتأكيد الإستحقاق    أريانة: تسجيل حالتي غش في ثالث أيام امتحان الباكالوريا    اتحاد الفلاحة : تخوّفات مهنيي القطاع بباجة كبيرة من عدم توفر قمح صالح للاستهلاك    'المنستير ملتقى الألوان' عنوان الدورة 19 للمهرجان الدولي للفنون التشكيلية    هذه الدولة تعلن عن موعد عيد الاضحى..    الكشف عن موعد عيد الأضحى فلكيا    انتشال جثة ثالثة في سقوط مروحية في بنزرت    بنزرت : حريق في حقل قمح و الحماية تتدخل    عيد الإضحى : هل ستورّد تونس الأغنام و اللحوم هذه السنة ؟    المنتخب الوطني: أسماء جديدة في قائمة جلال القادري    مصر.. ردود حادة على خطة إسرائيلية لتقسيم المسجد الأقصى وتجريد الأردن من الوصاية    وزير النقل يُشرف على أولى رحلات الحجيج لهذا الموسم    اكتشاف بكتيريا في أجسام المعمرين اليابانيين مسؤولة عن طول العمر    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الجمعة 9 جوان 2023    مستشفى شارل نيكول يتسلم هبة من مؤسسة "فابا" تتمثل في آلتين متطورتين تمكنان من تحليل الحمض النووي للخلايا السرطانية    لبيك اللهم لبيك (3): خلاصة أعمال الحج والعمرة    خطبة الجمعة: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ    مصر: وفاة روسي بعد هجوم قرش قاتل.. والسلطات تتحرك    منبر الجمعة: مَنْ عَرَفَ القادِرَ المقتَدِرَ جل جلاله... !    مطعم تونسي يوجه رسالة هامة للانستغراموزات والمؤثرين    تحذّير من مرضي اللسان الأزرق والنزف الجوائحي عند المواشي..    إيمان الشريف تُعلن عقد قرانها وتكشف عن جنسية زوجها    ذكرى الشابي باكية: ''الأنستغرام'' مورد رزقي    في بثّ مباشر من تونس إلى باريس : الكفاءة الطبية تنجح في اجراء عمليّتين    فوائد عديدة للتفاح لكبار السن    مهرجان دقة الدولي يكشف عن برمجة دورته السابعة والأربعين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بورقيبة العلماني والمجاهد الأكبر

عاد الجدل يدور من جديد حول شخصية الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة، بعد نشر قناة العربية لأشرطة وثائقية حول الزعيم العربي الوحيد، بين الزعماء التاريخيين الذي وصل إلى السلطة ليس من خلال انقلاب مسلح، وان كان طوال حياته السياسية الحافلة قد قام بأكثر من انقلاب.
أتاتورك المدني
تجربة بورقيبة بنجاحاتها وإخفاقاتها تستحق الوقوف عندها ومراجعتها، بعد فشل التجارب الأخرى التي قادت شعوبها إلى الكارثة، فبورقيبة هو مؤسس ثاني جمهورية في البلاد العربية، بعد جمهورية عبد الناصر، التي استقطبت الجماهير كما لم تستقطبها أي جمهورية أخرى، والتي شكل خطابها خطرا على كل الأنظمة التقليدية في المنطقة، بما في ذلك نظام الحبيب بورقيبة، الذي ناور بدهاء كي ينجو بنظامه من القوميين المتشددين، ومن الاشتراكيين المنغلقين، وكان عليه في كل مرحلة أن يعين رئيس وزراء من هذا التيار، أو ذاك التيار كي يعلق في رقبته كل أخطاء المرحلة، ويحافظ على صلب نظامه العلماني، الذي أخفاه بمهارة وسط نصوص قانونية، وليس داخل هتافات، وشعارات أيديولوجية. انتهت الايدولوجيا، وبقي القانون يحرس ما غرسه بورقيبة منذ زمن بعيد في مجلة الأحوال الشخصية.
يمكن القول أن بورقيبة هو أتاتورك آخر خلع ثيابه العسكرية، وعاد إلى بلاده المحتل بعد أن تحصل على شهادة في القانون من فرنسا عام 1927. القانون هو الذي راهن عليه بورقيبة، عكس أتاتورك الذي راهن على السلاح، والأمر العسكري لإنقاذ البلاد أولا، ثم لفرض العلمانية على المجتمع بأسره.
الخفيف والثقيل
لم تمر تونس بكفاح مسلح شامل لتحرير البلاد مثلما حدث في الجزائر. لقد اعتمدت على خطب بورقيبة، وهو يجوب البلاد أكثر من اعتمادها على رصاص أعمى لا يصيب الهدف، لهذا انتبهت فرنسا مبكرا للمحامي الشاب، الذي تعرض للاعتقال، والنفي داخل البلاد وخارجها عدة مرات، ومن المصادفات العجيبة أن تونس نالت استقلالها قبل الجزائر بعدة سنوات، رغم الثمن الباهظ الذي دفعه الجزائريون من أجل استقلال، أصبحوا رهائن له، وأفضى بهم إلى حرب أهلية، زادت من ثمن الاستقلال، بينما تنعم جارتها الصغيرة بالهدوء، والأمن رغم الفارق الهائل في موارد الدولتين، فعندما كان هواري بومدين يبنى الصناعة الثقيلة، كان بورقيبة من موارد زيت الزيتون، ومن عائدات نخل الجنوب، يبني المشاريع السياحية، لقد انهارت مشاريع الصناعات الثقيلة الجزائرية، لأنها كانت سقفا ثقيلا ليس هناك من أعمدة تسنده على الأرض، ونجحت الصناعات الخفيفة التونسية، بما في ذلك السياحة لأنها كانت الأرض التي عليها ترتفع الأشياء.
الوطن البحري والوطن القبلي
كان بورقيبة الذي ولد في مطلع القرن العشرين في حي "الطرابلسية" بمدينة المونستير، والذي تعود جذوره إلى منطقة مصراتة في ليبيا، قد نشأ بعيدا عن تأثير جامع الزيتونة، ومن البداية اختار أفق البحر الأزرق الذي تطل عليه المونستير، أكثر من أفق الجنوب الصحراوي الأصفر، وأختار أن يدرس في فرنسا حيث تأثر بشدة بمؤلفات جان جاك روسو، ومنتيسكيو. لم يتلقف العقد الاجتماعي، وروح القانون فحسب، بل عاش مع سيدة فرنسية دون زواج، تكبره باثنتي عشر عاما، كان زوجها العسكري قد لقي حتفه خلال الحرب العالمية الأولى، ثم تزوجها في ما بعد، وأنجب منها ابنه الوحيد، وعاشت معه 22 سنة، قبل أن يطلقها، ويتزوج من السيدة وسيلة بن عمار، التي تحولت إلى أقوى شخصية بعد بورقيبة، وأحيانا أقوى منه، حتى طلقها هي الأخرى في آخر سنوات حكمه بحجة تدخلها في شئون الدولة.
كان بورقيبة طاغية في زي علماني، ألغى كل الأحزاب، وأبقى حزبه فقط، وطارد معارضيه وسجنهم بالآلاف، وشطب على كل رفاقه في الكفاح من أجل الاستقلال، وأعلن نفسه "المجاهد الأكبر"، وفي منتصف السبعينات عدل الدستور، الذي أصبح ينص على أن بورقيبة هو رئيس تونس مدى الحياة.
خريف البطريرك
كان بورقيبة طاغية من نوع خاص، فقد عاش معتمدا على راتبه من وظيفته كرئيس للدولة، ربما لعدم ظهور النفط في تونس الذي بامكانه أن يفسد كل نساك العالم، وكان بورقيبة منذ وقت بعيد حسب ما جاء في كتاب "بورقيبة..سيرة شبه محرمة" للصحفي والكاتب التونسي الصافي سعيد، عندما خاطب معاونيه قائلا ذات يوم سأحيد عن الطريق، وسيطالني الفساد، وعندها لن يستطيع أحد منكم أن يقول لي ذلك.
ترى لو جاء بورقيبة من الجنوب الذي لا يزال حتى الآن يعرف بالوطن القبلي*، كان سيكون مختلفا عن بورقيبة الساحلي؟ لاشك أن بورقيبة يلخص مزايا الساحل التونسي وعيوبه، والقدرة على الجمع بين العلمانية المستندة على قوة القانون، وأيضا على نوع من الطغيان المديني، الذي يتراجع للصالح العام، ولا يعاند مثل شجرة صلبة لا تنحني للعاصفة، ربما لهذا السبب أهمل بورقيبة الجنوب حتى أصبح خطرا على نظامه في انتفاضة قفصة في آخر السبعينات، وأيضا في ظهور الجماعات الإسلامية.
في أواخر سنوات حكمه تحول بورقيبة إلى بطريرك في خريفه الطويل، كان التلفزيون التونسي يخصص فقرة قبل الأخبار"لأحاديث المجاهد الأكبر"، وتستهل الأخبار "بسيادته"، وهو يسبح، أو وهو يتأرجح من حبل مربوط في غصن شجرة، أو وهو يستعرض زهوه على كبار معاونيه في قصر قرطاج، أو وهو يستمع إلى فرقة الموشحات التقليدية التي تخصصت في مدحه.
بعد خروجه من قصر قرطاج في يوم 7 نوفمبر 1987، اختار أن يعيش في قصر في المونستير، وهناك لم يتحمل الوحدة، والإهمال، بعد أن كان ملء السمع والبصر، فأخذ يتصل بالهاتف بلا اتفاق، ويتحدث مع أول شخص يرفع سماعة الهاتف، ويسأله من بنى تونس، ومن حقق الاستقلال. تقول أخبار غير مؤكدة بأن الدولة انتبهت إلى ذلك فنظموا له دائرة مغلقة، يتولى فيها موظفون الرد على مكالماته بكل ما يرضيه، أما التلفزيون فكان يبث له خصيصا كل ما تغنت به فرقة المدائح والموشحات، التي أصبح أفرادها عاطلين عن العمل بعد خروج بورقيبة من قصر قرطاج إلى الأبد.
الإرث الباقي الوحيد
انتهى تقريبا كل ما تركه الرؤساء العرب الذين انتزعوا الاستقلال، أو من خلفهم ليمسح كل أثر لهم، اختفت الناصرية من مصر، بمجرد رحيل عبد الناصر، أما بقية الأنظمة فلم يكن لها من المشاريع حتى للاستمرار في ظل وجود مؤسسيها، كانوا يتقلبون بين الاشتراكية، والرأسمالية عدة مرات، دون أن يرمش لهم جفن. الوحيد الذي بقي تراثه بعده يحرسه غيره هو الحبيب بورقيبة، الذي كان متأكدا قبل رحيله عن قرابة قرن كامل من حياة حافلة بالانتصارات والهزائم، أن من المستحيل أن تعود المرأة في تونس، كما كانت عليه عندما وصل بورقيبة في عام 1957 إلى قمة السلطة.
ملاحظة : *تلفت الوسط التونسية نظر قرائها الى خطأ جغرافي فادح ورد بالتقرير وهو أن جهة الوطن القبلي تقع بالشمال الشرقي لتونس في شكل شبه جزيرة يحيط بها البحر من ثلاث جهات وليس بالجنوب التونسي كما ورد في تقرير كاتب هذا التحليل .
تمت اعادة النشر على الوسط التونسية بتاريخ 18 ماي 2007


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.