أب هي عنوان لقصيدة الشابي الشهيرة عالميّا، ومن يجهلها في تونس؟حتى الأمّي الذي لم يتمدرس يحفظ منها ولو سماعا,ولكن لي معها قصّة طريفة مضحكة مبكية,وهي كالآتي.في صيف ثلاث وثمانين من القرن المنصرم، عند وصولي ميناء حلق الوادي ،قادني حظّي العاثر نحو عون مرتش في الدّيوانة,أمرني بإنزال أمتعتي وحقائبي من السيارة الفورد برلين,وهي صغيرة طبعا وبها ملابس الأسرة الصغيرة,الوالدان وأربعة صبية صغار وما يلزمهم,ثلاث علب بخمسين بدلة كوش)الواحدة ،وقطع من القماش هدية لأفراد العائلة,وتلك عادة اجتماعية في جنوب البلاد, وهي لاتتعدّى الثلاثين دينارا يومها,لمّا كان الدّينار دينارا,احتار العون وفتّش ثمّ فتّش، والمح ومحّص وتنهّد، وغاب ورجع ,ثمّ حرّر القسيمة دون تفصيل للأمتعة المجلوبة,مائة دينارتونسية, تساوي الفا وماتي فرنك فرنسية، أجرة شهر من العمل في أكبر مصانع (بيوجو)وما أدراك، وكأنّ صاعقة أصابتني لولا إيماني بعدم رضوخي للرشوة,وقد لُعن الرّاشي والمرتشي و الرّائش بينهما,اتّجهت نحو القابض فصعق بدوره ،وقال أجلبت كلّ ما في فرنسا من متاع؟ فأجبت بالنّفي,فأمرني بالذهاب الى المدير،فوجدته في حوار مع شخص آخر,نظر الى الورقة وخصم منها الخمس, و اعاد القابض ،إرجع إليه مرّة أخرى فهذا كثير,وسمعت صراخ ابنائي الذين أرهقتهم حرارة شمس أوت الملتهبة والعطش، فقلت له سيذهب هذا المبلغ الى الخزينة العامّة؟ ذلك أحبّ اليّ من إعطاء الدّنيّة في ديني,وانت تسمع صراخ هؤلاء الصبية,دفعت اذا ثمانين دينارا، وشرعت في تحميل إمتعتي على, وفي السيّارة ،وأثناء ذلك إقترب العون فاردت معرفة غرضه من ذلك ،فقلت له أليس بالإمكان أن نتفاهم,فنظر اليّ مستبشرا الآن فقط فهمت,لا بل فهمت من الوهلة الأولى وحسابك عند الله ,فهم يمهل ولا يهمل,وجقد جرى بعدها عملية تطهير لاأدري إن كان ضمنها, وذاك يوم لا أنساه من بين الأيّام وتلته أخرمتشابهات , بتّ العاصمة تجنّبا للسّياقة في الليل,وخمس مائة كيلومترليست بالهيّنة ،وفي الغد صادفنا يوم قائض(ريح الشهيلي)اوبعد أيّام تلقّيت استدعاءًا لحضور اجتماع للمغتربين مع السلطات الجهوية وعلى رأسهم الوالي ولم أنشط لذلك لعلمي بعدم جدواه , ولكنّ أخي ووالدي شجّعاني لكثرة سماعهم بالعناية الكبرى التي يوليها النّظام بالعاملين في الخارج,وهنا تبدأ القصّة, فأنا ممّن يفضّلون الزيّ التّونسي الواسع,الجبة والسروال العربي حتّي في فرنسا,والعمامة واكتملت شكوك رئيس مركز الحرس الذي قال لي بعد ذلك,منذ دلفت من الباب كانت عيني عليك ،و كنت ملتح,وقد عفوت عن حلقها منذ السبعينيات تبعا للسّنّة,ولم أعلم بأنّها تهمة يتوجّس منها النّظام,عند دخولي مبنى المعتمدية سمعت التصفيق الحارّ, ظننت أنّه ترحيب بي,أو احتراما للزّيّ الوطني الذي تضاءل لبسه ،وقد دحره الزّي الغربي واقترب من الإندثار,لست أمزح بل هي الحقيقة, ولمّا انتبهت اثر تصفيق آخر، جلست في اوّل مقعد قريب,وتوالى التصفيق بدون هوادة، مثل ما نراه اليوم على الشاشة في خطابات وولكر بوش ،جنكيز خان العصر,وبعد كلمات المسؤلين, أعطيت الكلمة للحاضرين بعد سرد المبالغ الضخمة التي رصدت لمشروع شبه الجزيرة,التي اذاصرفت بنزاهة ومصداقية ،لأخرجت الجهة من مناطق الظّل,طالبت باستخراج المياه وترشيدها,بعدما غارت عين تاورغة المشهورة,التي تروي قريتيْ فطناسة وبشري وقد رثيتها بقصيدة شعرية: اقول فيها وتاورغة الغرّاء غاضت مياهها***ولاحيّ يبكيها ألم يرث حاتم كريم أخو طيئ تخلّد ذ كره*** وهل لتاوغة في بلادي شاتم ختم الإجتماع وقام الحاضرون وبدأوا بالنشيد الوطني ،حماة الحمى ولم أكن أحفظ وقتها، إلاّ إذا الشعب يوما أراد الحياة,ردّدتها مع الآخرين وما هالني الاّ ورئيس المركز يقترب منّي,ويطلب بطاقة التعريف من دون كلّ الحاضرين,تساءلت عن ذلك فقال لي منذ دخولك كانت عيني عليك, ولماذا لم تشارك من البداية في النشيد؟لاأحفظ غير هذا خطف مني محفظة اليد,فأشهدت الحاضرين,ردّها اليّ فأردت مقابلة الوالي دون طائل ,وتدخل بعض المنتمين للميليشيا,وتعكّر الجوّ وعلت الأصوات,وأردت الدّفاع عن نفسي لمّا استعملت الأيادي، ولكن قريبا لي تدخل في الوقت المناسب، ليمنعني من استعمال مهارتي في الجيدو,وقد لاحظ العون ذلك، فغير أسلوب المعاملة,وصار ينصحني بعدم التمرّد والإنصياع للقانون ،وذهبت معه إلى المركز وكان الوقت ظهرا,فبدأ عون منهم في كتابة المحضر دون تساؤل، مع كيل الشتائم والإتّهامات,وسبّ الجلالة والتطاول على الإسلام، فقلت بتعجب هل أنا في تونس أم في ... ؟ ماذا تكتب ياهذا، قال سوف نكنسكم ولن نقبل بالخوانجية في بلدنا,قلت هل تعرفني؟فأنا لم يحصل لي الشرف، وأنا مهاجرفكيف تسمح لنفسك بالبهتان,فصرخ مناديا رفيقه خذه الى السجن,رأيت في البهو حوضا فاتجهت للوضوء، فقال لي ممنوع، قلت هل تتحمّل المسؤلية أمام الله,أتمنعني من الوضوء والصلاة؟ فأحجم فصلّيت الظهر وكنت قابضا يديّ، فقال لماذا تفعل كذلك,فتعجبت لذلك حيث يجوز القبض والإرسال عند المالكية أيضا ،ولكن أنّى يعلمون وقد حورب الدّين في بلد سحنون ومالك الصّغير ,إبن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة,وطلب منّي بعد ذلك بلطف الدّخول الى الزّنزانة,وفيها فرش بسيط كان وقت القيلولة، فانطرحت على ظهري ونعست قرابة السّاعة, وأفقت على صوت الحارس وقد فتح الباب,أوصلني الى مكتب الرئيس وهناك اجتمع الأعوان ستّة أو سبعة لاأدري,وطلب منّي الإمضاء على المحضر,وأردت قراءته فقيل امضي فرفضت لأنني لاأدري ما كتب فهدّدني رئيسهم قائلا، أترى هؤلاء الشبان؟وقد كانوا متأهبين لإي أوامر بالإنقضاض عليّ وبأيديهم عصيّّ,وكانت إرادة الحياةّ والخشية من الزبانية الغلاظ الشداد الذين لايعصون الأوامر، ويستعذبون ذلك ويتلذّذون بعذابات أبناء جلدتهم,كما سمعت وقّعت على أمل الشكوى للمسؤولين وخرجت سالما,ونصحني الأقارب بلإتصال ببعض المتنفّذين والمقرّبين,ونجحت المهمّة وقيل إنّي من المتصوّفين، فلم أعترض وتعجّبت للفكرة وفهمت لاحقا لماذا يقبلون المتصوّفين,وقد أشاد بها الإستعمار الفرنسي,وأعاد رئيس المنطقة التّحقيق ،فشرحت الأمر بكلّ دقّة، سبّ الجلالة والتطاول والإستفزازات,ونصحني بعدم الإمضاء في المستقبل، ولوتعرّضت للضرب والتعذيب,فشكرته مع علمي بعكس مايقال من عدالة القانون,وخاصّة في تهمة الإنتماء للتيّار الإسلامي، وقد سمعت عجبا جرى في دولة القانون والمؤسسات,ومضى ربع قرن مازالت معاناة البعض متواصلة ،وقد استشهد الكثيرون داخل وخارج السجون,جرّاء أمراض لاأدري كيف أصابتهم, السرطان وتليف الكبد وغيرها, فماذا يقول الشابي ،إذا قام من قبره ولم يجد غير صورته على الورقة النّقدية,وتساءل عن قصائده, يابن أمّي وأخواتها, خلقت طليقا كطيف النسيم*** وحرّا كنور الضحى في سماه تغرّد كالطير أين إندفعت *** وتشدو كما شاء وحي الإلاه فهو سيطالب بدون شكّ بالعفو العام لسجناء الكلمة الحرّة والسياسة والمتهمين في السجون بدون محاكمة منذ الخريف الماضي,ولكنّي ألومه عمّا قاله,سأعيش رغم الدّاء والأعداء، كالنسر فوق القمّة الشمّاء,وقد عمّت الإنهزامية اليوم في أرجاء الوطن الكبير،وصارت النّخوة غرور، والحميّة جهالة ...،وصار الإنتساب للعروبة والإسلام لعنة على أصحابها،وسبة على ظهر البسيطة ، ولاحول ولاقوة الاّبالله.ا