عجيب حقا ما يجري في موريتانيا.. فهذه الدولة التي كانت بالأمس القريب على هامش الاحداث الاقليمية والدولية، باتت في بضعة اشهر قليلة، وتحديدا منذ الانتخابات الرئاسية الماضية، في مقدمة الانباء الاذاعية والتلفزيونية، كما أن اخبارها والتطورات التي تشهدها يوما بعد يوم على صدر الصفحات الاولى للصحف والمجلات الدورية فيما سارع المحللون والخبراء الى وضع نواكشوط ضمن أجندة اهتماماتهم، فما حصل في بضعة اشهر، محدودة كان لافتا للاهتمام ومثيرا للانتباه، بشكل غير مسبوق في هذا البلد الذي اقترن اسمه بالانقلابات العسكرية، منذ العام 1960 تاريخ استقلاله عن فرنسا اكثر مما عرف ببلاد المليون شاعر، مثلما يجري وصفه في الاوساط الادبية العربية. وما يزال عديد المراقبين في حالة «صدمة» ازاء ما حصل في الآونة الاخيرة، على اعتبار ان التطورات الايجابية التي عرفتها البلاد، ان على الصعيد السياسي والقانوني والاعلامي، او حتى الحقوقي والقضائي تكاد لا تصدق، ليس فقط من حيث وتيرتها المتسارعة، ودرجة تراكميتها، ولكن ايضا، وبالاساس لحجم القرارات المتخذة التي تصنّف ضمن القرارات المفصلية والمصيرية في تاريخ البلدان. فبالاضافة الى قرار تسليم الحكم لرئيس مدني بعد نحو عام ونصف من حكم مجلس عسكري بقيادة العقيد علي ولد محمد فال، شهدت نواكشوط ترسانة من القرارات والاجراءات السياسية التي قلّما يقع اتخاذها في دولة ما بمثل هذا التراكم.. فقد رخصت الحكومة لنحو 18 حزبا جديدا من مختلف المشارب السياسية والايديولوجية وتم تعديل قوانين البلاد باتجاه تجريم العبودية بعد أن تقرر في وقت سابق ازالة اي شكل من اشكال الرق في موريتانيا، وسُمِح للجمعيات بممارسة انشطتها بعد سنوات من المنع على عهد الرئيس السابق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع.. وأسند الترخيص لجمعية مناهضة حكم الاعدام، كما اتخذت اجراءات قانونية ايضا ل«تطبيع» وضع الزنوج في هذا البلد، بعد عقود من التهميش والنسيان والحرمان. ونظمت الحكومة في سابقة هي الاولى من نوعها في العالم العربي، موقع ودور زعيم المعارضة احمد ولد داداه، من خلال سن قانون يمكنه من امتيازات بروتوكولية ومادية خاصة، والتنصيص على الزامية التشاور معه من قبل رئيس الجمهورية في القضايا الوطنية الكبرى. واطلق العنان للصحفيين لممارسة مهنتهم عبر هامش واسع من الحريات قياسا بالوضع الذي كانت عليه الصحافة في نواكشوط قبل سنوات، وسمِح للناشطين النقابيين والحقوقيين بالنشاط والتحرك من دون قيود. لقد مثلت هذه الخطوات، قطيعة مع المرحلة السابقة، ولبنة هامة في تدشين «عهد ديموقراطي» في البلاد. صحيح ان ثمة تراكمات سلبية كثيرة ما تزال تجثم على صدر القيادة السياسية الجديدة، وصحيح ايضا ان اشياء عديدة لم تتغير، سواء في مستوى صلاحيات الرئيس الموريتاني او علاقته بالمؤسسة العسكرية او الهامش المخول لرئيس الحكومة لاتخاذ القرار، او بوصلة الحكومة الجديدة في مجال العلاقات الدولية.. غير ان كل ذلك لا ينفي كون موريتانيا دخلت بلا شك «النادي الديموقراطي» على الاقل في هذه المرحلة من التغيير بصرف النظر عما يمكن ان يحصل فيما بعد.. لقد نعت البعض تجربة الانتقال الموريتاني من الحكم العسكري الى القيادة المدنية (عبر الانترنات) ب«المهزلة» واعتبر اخرون ان نواكشوط «في مفترق طرق حاسم»، بالنظر الى ان امكانية الالتفاف على التغيير الحاصل هناك، ممكن بل ومتاح في اي لحظة.. وما يزال عديد المراقبين ممن لم يستسيغوا هذه النقلة في المشهد السياسي الموريتاتي، يمنون النفس مع اطلالة فجر كل يوم بتراجع التجربة والالتفاف عليها، بل ان البعض شرع في قياس مؤشرات العودة الى نموذج السلف الحاكم، لكن التجربة كانت تقدم في كل يوم الدليل على انها تمضي بالاتجاه الصحيح.. وبفضل عملية الانتقال السلس هذه، اجبرت موريتانيا المفكرين والمحللين، على تعديل مقارباتهم بشأن مقولة «دول الهامش» التي هيمنت على عديد التحاليل لعقود طويلة.. فهذه المقولة، لم تعد تعني شيئا من التحليل السياسي، لان مثل هذه «الهوامش» يمكن اذا ما توافرت شروط معينة ان تعطي انموذجا مغايرا تماما.. فما حصل في موريتانيا، مكن هذا البلد المغاربي ذي الثلاثة ملايين ونصف المليون ساكن، من اكتساب اشعاع دولي يتجاوز امكاناته وقدراته المادية والعسكرية والاقتصادية وغيرها،، وهو ما يعني في المحصّلة النهائية ان عملية الانتقال الديمرقراطي باتت مدخلا لاشعاع واحترام دوليين، لا تقل اهمية عن التحركات الديبلوماسية في السياسة الدولية المعاصرة. لقد مكنت التطورات الاخيرة في نواكشوط، النظام الموريتاني من استئناف دورته الدموية بشكل عادي بعد ان عانت البلاد من حالة تصلب في الشرايين لازمتها لعقود طويلة وتسببت لها في تشوهات وامراض مزمنة عديدة ومتراكمة.