: عندما يتعلق الأمر بمستقبل التيار الاسلامي الوسطي المعتدل ومستقبل الأوطان وهوية تونس واستقرارها وأمن ونماء شعبها , فانه لاحياء من النقد الذي يخفيه البعض مخافة فقدان موقعه الحزبي أو يناجي به البعض الاخر طمعا في الحفاظ على مكاسب دنيوية ومادية لن تغني عند الله ثم الناس شيئا . أعود الى موضوع الحركة الاسلامية التونسية وطرائق عملها وتفكيرها كما تجربتها المتعثرة والأليمة على مدار يراوح الثلاثة عقود , ولو أنني كرهت الخوض في هذا الموضوع في أكثر من مناسبة من موقع الحرص على تقديم أولوية تحرير الأسرى وعودة المنفيين على غيرها من الأولويات . أما وقد لاحظت بأن البعض يعيد الترويج لزعامته وقيادته ونفس أفكاره برغم تنادي الكثيرين من محبي المشروع الوطني والاسلامي الى ضرورة المراجعة على ضوء الفشل والتعثر والالام التي حصدها مناضلو المشروع وأنصاره بعد حوالي كل خماسية , وبالتوازي مع ماتشهده تجارب حركية اسلامية أخرى من نجاحات وتألق في ساحات المنجز الاجتماعي والسياسي والانمائي فان الكلام في مثل هذا التوقيت يصبح واجبا دينيا ووطنيا لايحتمل التأخير مع التأكيد على ضرورة تواصل النضال المحكم والهادئ والمثمر من أجل توسيع دائرة الحريات واخلاء السجون من أصحاب الرأي وارساء مناخ حقيقي للاصلاح العام . دعوني أذكر بعض الاخوة الاسلاميين في تونس أو خارج تراب الوطن بأن المبالغة في التقديس والمحافظة والانضباط الحزبي والحركي والتقيد بالمصالح التي يجلبها التقرب من زيد أو عمرو في مقابل مايجود به ذلك من منافع مادية أو اعلامية..., كل ذلك لن يكون من مقدمات حل الأزمة التونسية ولا من معبدات ترسيخ تجربة اسلامية حداثية تحظى بالاعتراف الداخلي والاحترام على الصعد الوطنية والدولية . ان الحاح البعض على تكريس المشيخية واشباع مقومات وجودها وانتشارها على الصعيد الوطني والعربي , في مقابل تغييب العقل الاسلامي الفاعل المتسم بالنقدية والتطورية والاضافية والابداع , من خلال احتكار الامكانيات المادية وتكريس الحضور الاعلامي الفضائي كالية من اليات التسويق بدل البحث عن مكامن الأزمة والداء وطرق الوقاية والعلاج ..., ان مثل هذه الأساليب في التعاطي مع مطالب التغيير والتشويش على أصحابها والتشكيك في وطنيتهم واسلاميتهم رغبة في احتكار الساحة والهيمنة عليها والظهور بمظهر الأقوى على مستوى المشهدية السياسية ..., مثل هذه الأساليب سوف تزيد من عطالة الحالة التونسية في مقابل تألق تجارب أخرى على الساحتين العربية والاسلامية والحال أن التجربة التونسية هي الأسبق زمنيا والأكثر رحابة واضافة على الساحة الفكرية . مشكلة الاسلاميين التونسيين , أنهم فشلوا الى حد الساعة سياسيا في ايجاد جسر مفتوح وممدود مع سلطات بلدهم وذلك نتيجة الخلط الفادح بين العمل الحقوقي ومقتضياته والعمل السياسي ومتطلباته , حيث تحولوا لاشعوريا الى رابطة أو جمعية حقوقية ليس لها من أهداف نضالية الا تحرير المساجين السياسيين , والحال أن تجارب العدالتين والتنميتين في كل من تركيا والمغرب الأقصى تركت قضايا الاعتقال السياسي للروابط الحقوقية في مقابل تفرغها لمشاريع الاصلاح السياسي الهادئ والفاعل بعد التسليم نهائيا بشرعية المؤسسات الحاكمة سواء كانت ملكية أو عسكرية . لازالت الحركة الاسلامية في تونس تخضع موقفها من الاستحقاق الرئاسي للمزاجية الشخصية والقيادية ولمحاكاة مواقف الأحزاب الأخرى في الساحة الوطنية , والحال ان هذا الموضوع حسم نهائيا في المغرب الأقصى لفائدة الاقرار بالنظام الملكي القائم وشرعيته الدينية والتاريخية , أما في تركيا فقد حسمت الحركة الاسلامية موقفها من موضوع العلمانية ودور المؤسسات الأتاتوركية في قطاعات الجيش والقضاء , وهو مافتح الطريق أمامها واسعا من أجل المشاركة والتغيير والنجاح . تصنع الحركة الاسلامية في تونس الفشل بأيديها وأيدي بعض قيادييها النافذين , ثم ترمي بالكرة في سلة الاستبداد والهيمنة الدولية ..., واذا صح أن ميراث الاستبداد ظاهرة خصبة في المحيط العربي والاسلامي فان طرائق تهذيب الاستبداد أو تضخيمه ومأسسته تصبح مسؤولية جماعية تتحملها النخب والأحزاب , ولعلني لاأشك لحظة في أن أداء الاسلاميين التونسيين ساهم في استفزاز النخبة الرسمية الحاكمة واثارة مخاوفها ومن ثمة ارتكاز أدائها على أسس أمنية مازالت تلقي بظلالها على الحياة العامة . ولايقلل هذا أبدا من المسؤولية الرسمية في معالجة الأزمة السياسية في تونس منذ بداية التسعينات على أساس أمني اتصف بالحزم والصرامة وأدى الى صناعة رصيد من الخصومة وظفه خصوم عقائديون متمعشون من صناعة الأزمات , وهو مالم تواجهه الحركة الاسلامية بقدرة موازية على التفكيك والفهم والمرونة التي لابد أن يكون محورها نسج تقاليد راسخة وايجابية ومفتوحة مع مؤسسة الرئاسة بصفتها مؤسسة دستورية قائمة وقوية لابد أن تكون مرجعا وطنيا عند الخصومة والاختلاف . ان تجارب الاسلاميين الناجحة في المنطقة العربية والدائرة الاسلامية الأوسع , هي تجارب أحسنت التعامل مع المؤسسة الملكية أو الأميرية أو المؤسسة الهرمية عسكرية كانت أو مدنية , اذ لم ينبع استقرار تجاربها ونجاحاتها من منطلق ماتمثله من قوة وجماهيرية بقدر ماأنها أحسنت التفاعل مع تقاليد تاريخية تعطي الدور القيادي المركزي في الدولة مكانة ريادية . لقد فشلت الحركة التونسية في ربط علاقات مرنة وناجحة مع الرئيس الراحل بورقيبة وكانت المواجهة في سنوات 1981 و1987 , وفشلت مرة أخرى في ربط علاقات بعيدة عن تشخيص الصراع واستهدافه لمنصب رئيس الجمهورية من خلال نصوص مكتوبة وأخرى شفهية صدرت من أعلى قياداتها بداية حقبة التسعينات , وهو ماتحول رسميا الى نوع من اثبات الجدارة في القيادة بعد ماحصل لها من تشكيك وطعن معنوي ... وفي ظل تفكير موضوعي ينطلق من خصوصيات التجربة العربية والاسلامية وفي غير محاكاة للتجربة الغربية أو للاستثناء الموريتاني , فانه يمكن التسليم في تونس بوجود مؤسسة راسخة تكون حكما ومرجعا متقيدا بنصوص الدستور ومتمثلا للمسؤولية الأخلاقية تجاه شعب يتطلع الى الاصلاح في أكثر من حقل ومجال ممكن ومتاح , وهو مايعني أن حقول الاصلاح ينبغي أن تساير خصوصية تونسية لاتحتمل التقليل من دور قصر قرطاج كمؤسسة مركزية أصبحت لها تقاليد ومكانة قوية على الساحة الدولية منذ فجر الاستقلال . لم تخسر الحركة الاسلامية في تركيا حين اعترفت بقوة قادة الجيش والميراث الأتاتوركي , بل انها بذلك ربحت اعترافا ونجاحا في الداخل والخارج , ولم تخسر العدالة والتنمية في المغرب الأقصى حين جالست الملك محمد السادس وحتى الحسن الثاني قبل ذلك واستمعت الى الخطوط العريضة المسموح بها في الساحة الاقليمية والدولية , وهو ماجعلها تنجح في فهم مساحات التغيير ومحظوراته قطريا ومتوسطيا ... ان عقدة البعض تجاه النظام العمودي للمؤسسة السياسية الحاكمة في تونس , جعله يقع في محظورات داخلية وخارجية ومن ثمة التسريع بتهاوي المنجز الاجتماعي والسياسي في وقت قياسي ... اليوم أجد نفسي مضطرا للخوض في مثل هذا الموضوع الحساس بكل شفافية مقدرا في ذلك أن المعالجة أولى من المجاملة والمحاباة التي قد يمليها علي من حيث لا أشعر نضالي لمدة عقدين كاملين داخل المنتظم الحزبي الاسلامي المعتدل . مراجعات كثيرة وكبيرة تنتظر الحركة الاسلامية التونسية ولعل ماأثرته اليوم من موضوعات يعد جزء أولا من تأملات جريئة وددت الاصداع بها بعيدا عن مخزون نفسي وتاريخي مازلت أكن له كثيرا من التقدير , ولكن ليس على حساب الام وتطلعات شعب وبلد . حرره مرسل الكسيبي* بتاريخ 29 أغسطس 2007 - 16 شعبان 1428 ه . *كاتب واعلامي تونسي- رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية :