ترجل عن جواده بذات الحكمة التي امتطاه بها طوال سني عمره الثلاث والثمانين، ليُخلّف سحابة حزن غيمت على مستشفى الأردن أول من أمس بعد أن رقد على سريره منذ أسبوع إثر اشتداد وطأة المرض العضال عليه. وإن كانت ردهات مستشفى الأردن اتشحت بدموع أنصار الراحل، فإن حزب الوحدة الشعبية الديموقراطية الأردني الذي احتضن مسيرة "الحكمة" للراحل غصّ كذلك بقيادات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وبمحبي الحكيم الذين توافدوا بألم وأسى يسبق الخطوات. وتنعى المناضلة ليلى خالد الراحل بكلمات رثاء ممزوجة بالدموع، قائلة "يوم حزين لنا وللأمة العربية وجميع أحرار العالم (...) يوم رحيل القائد الذي وهب حياته لوطنه وقضيته جورج حبش". وتضيف "رحل لاجئا، ولم يزل يناضل لحق عودة كل اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم المغتصَب، وحتى النهاية لم ينفك يدعو لوحدة البيت الفلسطيني ونبذ الهرولة غير المدروسة إلى المفاوضات". وتُعاهد خالد الراحل الحكيم ب"المضي قُدما في مسيرة النضال والفكر التي خلفها وراءه، لأن الاستمرار على نهجه سيضمن للفلسطينيين ألا يضلوا الطريق". ولد الحكيم لعائلة من الروم الأرثوذكس وتلقى دراسته الإبتدائية في اللد عام 1925، ومن ثم تابع دراسته الثانوية بمدارس يافا والقدس، لينزح عن فلسطين في نكبة 1948. "في هذا اليوم فقد شعبنا رجلا من أغلى الرجال وأكثرهم التصاقا بالنضال الفلسطيني (...) لم يكن قائدا فلسطينيا فحسب، بل مناضل عالمي (...) كل أحرار العالم والتقدميون سيتذكرون بأسى وحسرة رحيل جورج حبش"، يقول أمين عام حزب الوحدة الشعبية الدكتور سعيد ذياب. ويردف "لم يكن رجلا عاديا بل استثنائي. قدم أكثر ما يمكنه تقديمه، فكان من أعمدة الحركة القومية عربيا، والنضال والكفاح الحر عالميا". وتخرج حبش من الجامعة الأميركية في بيروت طبيب أطفال، ليباشر بعدها تأسيس حركة القوميين العرب في 1961 والتي سبقتها مجموعة العمل الطلابي ومن ثم كتائب الفداء العربي التي أسسها مع زملائه ومنهم الشهيد وديع حداد. وفي كانون الأول (ديسمبر) 1967 أسس حبش الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع زميله أبو علي مصطفى وآخرين، حتى تنحى عن قيادتها طوعا عام 2000، ليدير بعدها مركزا للدراسات يُعنى ببحث فشل ونجاحات الحركة الفلسطينية. وبصوت يتهدج حزنا وأسى ينعى المناضل الفلسطيني بهجت أبو غربية رفيقه في النضال جورج حبش، قائلا "لقد عرفت المرحوم الحكيم منذ الخمسينيات، وناضلنا معا لسنوات طوال". ويضيف أبو غربية "لقد كان للحكيم تاريخ نضالي عريض ومؤثر وفاعل، إذ استطاع إلى جانب نضاله لتحرير فلسطين تأسيس حركة القوميين العرب". ويتمنى أبو غربية على الجبهة الشعبية "أن تتمسك بإرث الحكيم الراحل، وأن تبقى قابضة على جميع الثوابت الفلسطينية التي غرسها". ويتحدث الأمين العام للجبهة الديموقراطية نايف حواتمة عن رفيق نضاله، قائلا "رحل الدكتور جورج حبش مناضلا فلسطينيا قوميا. رحل ولم تكتحل عيناه برؤية القدس عاصمة للدولة الفلسطينية الحرة". وعن ذكرياته معه، يقول "جمعنا معا النضال القومي والوطني، فعملنا على تطوير النضال بعد أن تعلمنا من تجربة النكبة العربية الكبرى في 1948 وما جرته علينا من وبال، فحاولنا توأمة التوجه القومي مع الوطني وطورناهما ليخدما مجموع الحركة الوطنية الفلسطينية". ويعقب حواتمة "جمعتنا أيام النضال بحلوها ومرها، بنجاحاتها وإخفاقاتها. وإن كان كل رحيل حزين، فإنا نتمنى على الجبهة الشعبية الفلسطينية أن تمضي فيما أسسه الحكيم وحلم به طوال مسيرته". وبأسى بالغ يصف رئيس المجلس الوطني الفلسطيني سليم الزعنون الراحل الحكيم ب"الرجل التاريخي العظيم"، مضيفا "لطالما كنا نتطلع إلى رأيه وصواب بصيرته في مجالسنا الوطنية وقضايانا كافة". ويستذكر الزعنون "موقفا تاريخيا" للحكيم، قائلا "في أحد اجتماعاتنا الفلسطينية رفض الحكيم الاعتراف بأحد البنود، ولكنه لم يتعنت في رأيه بل قال: سأترك الحكم للأغلبية ولو أني أتوقع ألا يكون ذلك في مصلحتنا، وهو ما ثبت صحته فيما بعد ليسجل له هذا الموقف النبيل". ويردف الزعنون "كلنا تثقفنا من نشرات الثأر التي كان يخطها الحكيم بيراعه في مصر عام 1952، لقد كان حكيما ومثقفا بكل ما للكلمة من معنى". وبملامح الفجيعة والوجوم التي ترتسم على وجوه المتواجدين الشبان في الحزب، تقول سلوى البرغوثي (22 عاما) إن غياب جورج حبش هو "غياب الأب والقائد"، مضيفة "كنت أعوده في المستشفى كل يوم، وحينما توقف نبضه عن الحياة أطللت عليه، فكان بذات الهيبة التي وعينا عليها في صوره. عاش بطلا ومات بطلا". علاء أبو عواد (23 عاما) يقول في رحيل الحكيم "إنه لا يمثل ذاته فقط، بل مناضلي العالم كافة. رمزيته تعني لنا الكثير، لقد غاب في وقت نحن بأمس الحاجة فيه إلى حكمته". عشريني آخر فضّل عدم ذكر اسمه، يقول "عاش الحكيم ورحل قوميا عربيا، قد نختلف أو نلتقي معه في مواقف غير أن ذلك لا يمحو رمزيته ونضاله التاريخي". "هو اللي عمل الجبهة الشعبية وهو اللي قاتل عشان فلسطين. كل إشي لفلسطين إحنا معه"، يقول الطفلان تامر اللوزي ومحمود رياض (15 عاما) بينما ملامح الحزن بادية على محياهما. وسجل الراحل أروع الأمثلة في صهر الاختلافات الفلسطينية الفلسطينية في بوتقة التآخي، عندما تجاوز خلافاته مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ليشهد على عقد زواجه، عدا عن تأكيده حتى سويعاته الأخيرة على ضرورة نبذ الخلافات الفلسطينية الداخلية التي وصفها المقربون منه ب"ذات الوقع الشديد الإيلام على نفسه حتى لحظة رحيله". وعن جورج حبش الإنسان يقول قريبه فادي كرادشة (37 عاما) "لدى الحكيم طيبة قلما تتواجد لدى أحد، فبقدر صلابته وعنفوان نضاله كان حنونا وديعا ذا قلب كبير". ويستذكر كرادشة بأسى أحد أيامه مع الحكيم، قائلا "كنت في زيارة معه إلى اليمن، وهناك وقعت الصينية من يد النادل، فما كان من الحكيم برغم شلله إلا أن حاول القيام لمساعدته، مربتا على كتفه ليهدئ من روعه". وعن آخر أيام الحكيم، الذي تزوج في عام 1961 من فتاة مقدسية اسمها هيلدا حبش ورزق منها بابنتين، يقول كرادشة "لم ينفك يقرأ في كتبه حتى النهاية، متابعا أخبار فلسطين عن كثب، ومتألما لحصار غزة وموصيا بوحدة الصف وإكمال مسيرة النضال". وكان القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ماهر الطاهر أعلن أن الحكيم أوصى قبل وفاته بأيام ب"استمرار الكفاح حتى تحرير فلسطين".