تونس تشارك في معرض ليبيا للإنشاء    غرفة القصابين: معدّل علّوش العيد مليون ونص    نيويورك: الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا وتعتقل عشرات المؤيدين لغزة    تونس: الإحتفاظ بعنصر تكفيري مفتّش عنه    علم تونس لن يرفع في الأولمبياد    جبل الجلود تلميذ يعتدي على أستاذته بواسطة كرسي.    مهرجان سيكا جاز: تغيير في برنامج يوم الافتتاح    الفيلم السّوداني المتوّج عالميا 'وداعًا جوليا' في القاعات التّونسية    سامي الطاهري يُجدد المطالبة بضرورة تجريم التطبيع    دعما لمجهودات تلاميذ البكالوريا.. وزارة التربية تدعو إلى تشكيل لجان بيداغوجية جهوية    الطبوبي في غرة ماي 2024 : عيد العمّال هذه السنة جاء مضرّجا بدماء آلاف الفلسطينين    عاجل: وفاة معتمد القصرين    انطلاق فعاليات الاحتفال بعيد الشغل وتدشين دار الاتحاد في حلتها الجديدة    بنزرت: وفاة امرأة في حادث اصطدام بين 3 سيارات    اليوم: طقس بحرارة ربيعية    تونس: 8 قتلى و472 مصاب في حوادث مختلفة    البطولة العربية السادسة لكرة اليد للاواسط : المغرب يتوج باللقب    الهيئة العامة للشغل: جرد شركات المناولة متواصل    اليوم: تونس تحيي عيد الشغل    جولة استكشافية لتلاميذ الاقسام النهائية للمدارس الابتدائية لجبال العترة بتلابت    نتائج صادمة.. امنعوا أطفالكم عن الهواتف قبل 13 عاماً    اليوم.. تونس تحتفل بعيد الشغل    اتفاق لتصدير 150 ألف طن من الاسمدة الى بنغلاديش سنة 2024    الليلة في أبطال أوروبا... هل يُسقط مبابي «الجدار الأصفر»؟    الكرة الطائرة : احتفالية بين المولودية وال»سي. آس. آس»    «سيكام» تستثمر 17,150 مليون دينار لحماية البيئة    أخبار المال والأعمال    وزارة الفلاحة تضبط قيمة الكيلوغرام من التن الأحمر    لبنان: 8 ضحايا في انفجار مطعم بالعاصمة بيروت وقرار عاجل من السلطات    موظفون طردتهم "غوغل": الفصل كان بسبب الاحتجاج على عقد مع حكومة الكيان الصهيوني غير قانوني    غدا الأربعاء انطلاقة مهرجان سيكا الجاز    قرعة كأس تونس للموسم الرياضي 2023-2024    اسقاط قائمتي التلمساني وتقية    تأخير النظر في قضية ما يعرف بملف رجل الأعمال فتحي دمّق ورفض الإفراج عنه    تعزيز أسطول النقل السياحي وإجراءات جديدة أبرز محاور جلسة عمل وزارية    غدا.. الدخول مجاني الى المتاحف والمواقع الاثرية    هذه تأثيرات السجائر الإلكترونية على صحة المراهقين    قفصة: تواصل فعاليات الاحتفال بشهر التراث بالسند    وزيرة النقل في زيارة لميناء حلق الوادي وتسدي هذه التعليمات..    تحذير من برمجية ''خبيثة'' في الحسابات البنكية ...مالقصة ؟    ناجي جلّول: "أنوي الترشّح للانتخابات الرئاسية.. وهذه أولى قراراتي في حال الفوز"    الاستثمارات المصرح بها : زيادة ب 14,9 بالمائة    عاجل/ "أسترازينيكا" تعترف..وفيات وأمراض خطيرة بعد لقاح كورونا..وتعويضات قد تصل للملايين..!    مختص في الأمراض الجلدية: تونس تقدّمت جدّا في علاج مرض ''أطفال القمر''    يوم 18 ماي: مدينة العلوم تنظّم سهرة فلكية حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشّمس    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    إحداث مخبر المترولوجيا لوزارة الدفاع الوطني    أمير لوصيف يُدير كلاسيكو الترجي والنادي الصفاقسي    إصطدام 3 سيارات على مستوى قنطرة المعاريف من معتمدية جندوبة    خبراء من منظمة الصحة العالمية يزورونا تونس...التفاصيل    ربع نهائي بطولة مدريد : من هي منافسة وزيرة السعادة ...متى و أين؟    التوقعات الجوية اليوم الثلاثاء..أمطار منتظرة..    فرنسا تعزز الإجراءات الأمنية أمام أماكن العبادة المسيحية    الخليدية .. أيام ثقافية بالمدارس الريفية    زيادة في أسعار هذه الادوية تصل إلى 2000 ملّيم..    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بقلم عبد العزيز القاطري: النّهضة، أو الخدعة الكُبْرى
نشر في تونس الرقمية يوم 29 - 04 - 2020

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ
صدق الله العظيم
في المنتصف الثّاني من القرن 19 كانت الأغلبيّة القصوى للبلدان العربية والإسلامية تقبع في قاع سبعة قرون من الإنحطاط كانت بدايتها نهاية العصر الذهبي للحضارة اليانعة التي شهدها العالم العربي الإسلامي والتي استَلَمت قصب حركة التّاريخ عن الحضارات الصينية والعراقية والفارسية والمصرية واليونانية التي سبقتها، فتناولتها بالتّرجمة أوّلا، ثمّ بالدّرس والإثراء ثانيا، إلى أن اهتصرتها في رحمها لتلدها من جديد في شكل حركة فكرية وفلسفيّة وعلمية مبهرة أشعّت بنورها على بقية العالم، انطلقت من دمشق ثم بغداد وبيتها للحكمة، لتنتشر في بلاد فارس والقيروان وفاس وقرطبة واشبيلية وغرناطة وغيرها من منارات علوم الجبر والهندسة والفلك والطب والفلسفة، ومن نوادي الشعر والموسيقى. ولم يكن كلّ ذلك محض صدفة بل وليد مسار معقّد تواصل عدّة قرون بفضل مناخ الحرّية، صحيح حرّية نسبية شهدت عدّة انتكاسات بالنسبة لمن يرونها بعيون اليوم، ولكنّها كانت متميّزة وكافية لتحرير المبادرة الفكرية مقارنة بما كان يحدث حواليها في بقيّة أصقاع العالم، وفي أوروبا بالخصوص التي ما كادت تخرج من خضمّ ليل القرون الوسطى الطّويل حتّى دخلت تحت نير الكنيسة ومحاكم التفتيش بما صاحب ذلك من ملاحقة لكل فكر حرّ أو حتّى مشتبه، ومن اضطهاد وتعذيب وحرق للنّاس أحياء، وللكتب.
لكن، ما الّذي حدث كي تدور كفّة الرّحى، ويصبح الرّائد منحطّا ثمّ تابعا، والمنحطُّ رائدا ثمّ سيّدا؟ الحقيقة، ليس هناك من حدث مفاجئ بعينه يمكن أن نجعله لحظة فارقة لهذا التّحوّل، لأنّه كان هو الآخر وليد مسارين طويلين نسبيا، ولكنّهما في اتجاهين معاكسين: مسار انحسار فكري هنا سببه انحسار مجال الحرّية كقاعدة أساسية لكل عملية خلق وإبداع، ومسار انعتاق وتحرّر هناك فكَّ قيودَ العقل وفتح أبواب التفكير. غير أنه يمكن حسب رأيي المتواضع ذكر أحداث مفصلية لها رمزيتها الكبيرة داخل هذين المسارين المعاكسين ساهمت في تسريعهما:
في نهاية القرن الثّاني عشر، ذاع صيت ابن رشد كأعظم علماء العرب والأرض قاطبة آنذاك، رائد علم الطبّ وكاشف قرنية العين، واضع أسس علم التّشريح، الفيلسوف شارح فلسفة أرسطو، صاحب كتاب تهافت التّهافت الّذي ردّ فيه على كتاب تهافت الفلاسفة لأبي حامد الغزالي وأرضه المعلّقة بين قرنيْ ثور، وخاصّة القائل بأن الشّريعة غير متناقضة مع علوم العقل والبرهان، شريطة أن يمكث كلّ منهما في مكانه. كما أنّه القائل بوجود” حقيقة واحدة فقط يمكن الوصول إليها عن طريقين مختلفين: عن طريق الإيمان، وعن طريق الفلسفة. وعندما يتعارض الطريقان فهذا يعني أن علينا قراءة النص المقدس بطريقة تأويلية”.
ورغم التّحوّطات “الفقهيّة” التي اتّخذها ابن رشد في تمشّيه تجنّبا لسوء فهم مقاصده، كحرصه “على مراعاة اللغة العربية وأصولها، وأن يكون التأويل غير مخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز في تسمية الشيء بشبيهه، أو بسببه، أو لاحقه، أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي”، وعلى أنّ تأويل النّص المقدّس يجب أن يكون مقتصرا على من هم أهل له لقوله تعالى: “وَما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم”، فإنّ أفكاره لم تكن لتروقَ لفقهاء ذلك العصر وغيرهم من الإنتهازيّين روّاد البلاطات الآكلين على موائد الملوك والأمراء الّذين يتردّد إليهم ابن رشد، بفعل الحسد والغيرة ممّا يلقاه لديهم من تبجيل، والّذين رأوا فيه تهديدا للإمتيازات التي ينعمون بها، فراحوا يكيدون له، ويتّهمونه بالزندقة، وبالتّأثير على أبي يحي شقيق المنصور خليفة دولة الموحّدين كيْ يطيح به، إلى أن أوغروا قلبه عليه، فأُحضِر في مجلسه، “وأُهين ولُعن أمام الحاضرين واتُهم بالكفر والمروق من الدين، وأمر هذا الحاكم بإخراجه في أسوإ حال، وإبعاده وإبعاد من يتكلّم بشيء من العلوم المتعلقة بالفلسفة، وأمر أن تكتب عنه الكتب في البلاد طالبة من الناس ترك هذه العلوم جملة واحدة، وإحراق كتب الفلسفة كلها”. يومها انطلقت رحلة ابن رشد في العذاب والإضطهاد، ورحلة المسلمين في الإنحطاط والظّلامية.
ولكن وجب القول أنّه كما كانت شعلة انطلاقة العصر الذّهبي من بغداد، فقد بدأت انتكاسته منها، حين بدأ فقهاء البلاطات العبّاسيّة منذ القرن الثّامن يقولون بأنّ العلوم القديمة (اليونانية) بدعة، وطبعا كل بدعة ضلال..، وأصبحوا يكيدون لكل فكر مستنير، ولعل أهم حادثة تمثّلت في دعوة أبي بشر متّى مترجم كتب الفلسفة اليونانية إلى مجلس الوزير ابن الفرات، والتّنكيل به، حيث “تعرض له أبو سعيد السيرافي، محتجاً أن العرب ليست بحاجة إلى “منطق”، لأن إجراء لغتها في مجراها الصحيح حرفاً وكلمة وجملة، هو المنطق بذاته. وبدأ يطرح أُحجِيات نحوية على أبي بشر لا تعلق لها بموضوع النقاش. الأكثر لفتاً للنظر في هذا الهجوم المبكر أن الوزير ابن الفرات اعتبر تصدي السيرافي للمنطق وتسفيه مقولات أبي بشر نوعاً من “الانتصار للدّين وأهله”!.
وهاتان الحادثتان لوحدهما تبيّنان بكلّ وضوح أنّ أغلب اعتراضات الفقهاء على الفلاسفة والتي أدّت إلى التّنكيل بهم مردّها دنيوي مادّي بحت، لِمَا كانوا يمثّلونه من تهديد لمكانتهم لدى الملوك الذين يسترزقون منهم.
وفي نفس الفترة التي كان فيها ابن رشد هاربا من مضطهديه من بلاط لبلاط، ومن قرية لقرية، وكانت فيها كتبه تحرق، كانت أفكاره تسري في أوروبا وجامعاتها سريان النّار في هشيم الفكر المتحجر، ساعدها في ذلك لاحِقا اكتشاف المطبعة التي مكّنت عامّة النّاس من فرصة قراءة الكتب التي كانت حكرا على طبقة الأثرياء، رغم ردّة الفعل المنتظرة والعنيفة لأساقفة الكنيسة (النسخة الكاثوليكية لفقهاء التّطرف)، نظرا لما تُمثّله من تهديد لسلطتهم على الملوك والعباد وعلى مستوى البذخ المفرط الذي يجنونه من مكانتهم تلك، ولعلّ أبرز ردّة فعل كانت المحاكمة الباريسيّة الشّهيرة للرّشديين (نسبة لابن رشد) سنة 1210 مباشرة بعد قيام المدرسة الرّشدية بها. ومثّلت تلك الأفكار شعلةَ ما أصبحنا نسمّيه اليوم عصر النهضة الأوروبي، بفضل انتصارها على ظلامية الكنيسة، والتي تُوِّجت بقرن الأنوار، ثم بالثّورة الصناعية، واليوم بالثورة المعلوماتية والرّقميّة، وبثورة ال NANOTECHNOLOGY، والذّكاء الإصطناعي والرّوبوتات…
حادثان آخران كانا مفصليّين في هذا المسار التّاريخي، وتتويجا لغلبة الكفّة الأوروبية، ليس على العرب والمسلمين فقط، بل على اليهود والسّود أيضا، وعلى بقيّة العالم آنذاك، وقد حدَثا في نفس السّنة من نفس القرن 15، سنة 1492 التي شهد أوّلها غزو غرناطة آخر معقل للإسلام في اسبانيا من طرف جيوش إيزابيل وفرديناند، وطرد المسلمين منها، وما صحبه من تنكيل بهم وباليهود رغم التّعهدات الممضاة بعدم التّعرّض لهم، بينما شهد آخرها اكتشاف القارة الأمريكية من طرف كولومبس بإيعاز من الملكين نفسهما وما تبعه من تقتيل وتدجين لسُكّانها الأصليين (الهنود الحمر)، ومن نهب لخيراتها، ومن جلب ملايين الأفارقة لها رقيقا مغلولين وبيعهم بمباركة من ذات الكنيسة التي اتاحت مراسيمها الصّادرة عن البابا لملوك اسبانيا والبرتغال استباحة جميع أراضي وأملاك السّاراكينوس (les sarrazins يعني العرب والمسلمين)، وغير المؤمنين (يعني غير المسيحيين)، والوثنيّين (يعني السود)، وكل أعداء المسيح أينما كانوا، وإخضاعهم للعبودية للأبد.
وهنا نلاحظ الإتّفاق شبه التّام في مواقف الّلاهوتيين من الجهتين عند العرب وعند الأوروبيين حيال نفس المسائل، سواء من حيث الوقوف بكلّ عنف في وجه كل فكر يدعو لإعمال العقل، أو من حيث التّشجيع على غزو أراضي “الكفّار” واستباحتهم وإخضاعهم للعبودية باسم الجهاد هنا والحرب المقدّسة هناك. ولعلّ ما يبعث على السخرية (لولا دراميّة المشهد وانعكاساته المأساوية على حياة ملايين البشر)، أنّ مؤمني المسلمين هم كفّار لدى المسيحيّين، ومعتنقي المسيحيّة هم كفّار لدى المسلمين، والكلّ يستبيح الكلّ باسم نفس المنطق الّلاهوتي.
في الأثناء إذنْ، ضلّ العرب و المسلمون يراوحون مكانهم، يقبعون في حلقة التّكرار المفرغة، معتبرين أن كل ما يجب أن يقال قد قيل، وأن “العرب ليست بحاجة للمنطق”، وأنّ لغتها هي “المنطق بذاته”، وأن باب الإجتهاد قد أُغلِق، وما علينا إلّا الإكتفاء بترديد ما ذهب إليه “السّلف الصّالح”، فجاء العثمانيون بعنجهيّتهم واستبدادهم ونهبهم، وعمّ الجهل، وانتشرت الشعوذة وفنون السحر والمتاجرة بكلام الله من طرف القلّة التي تسنّى لها البعض منه، وشيدت الأضرحة لهم، فأصبح يسترزق منها حتى الجهلة من شيوخ الحضرة.
ولعل ما يبعث على السخرية بقدر ما يبعث على الألم، أن الإنجاز الثقافي الأعظم لنظام بن علي هو ذلك العرض الشّهير بنفس الإسم، الحضرة، العرض الذي يتضرّع فيه الأحياء لأشخاص قضوا نحبهم منذ مئات السّنين كي يأخذوا بأيديهم، والذي كلّف خزينة الدّولة ما كلّفها، والذي مازال “المتمعّشون” منه يقتتلون من أجل إرثه ويتقاسمون فتاته إلى اليوم.
ولم يستفيقوا من هذا السبات إلّا على صفعة الغزو الغربي، ممثّلا في آلاته الصناعية وكهربائه في البداية، ثم في جيوشه واستعماره لاحقا، بعد أن خذلهم الخليفة العثماني وملوكه وتركوهم لقمة سائغة له. ورغم استماتة الأهالي واستبسالهم في وجه الغزاة، ورغم انتصارهم في عدّة معارك مشهودة، فقد كان لا بدّ ممّا ليس منه بدّ، لأنّه لم يكن بإمكان المقاتلين، العزّل إلّا من شجاعتهم، دحر جيوش الرّشّاشات والدّبّابات العتيّة.
ولكن رُبَّ ضارّة نافعة، حيث ما إن مرّ ألم الصفعة الأوّل، حتى تحرّك البعض من خرّيجي مدرسة التكرار الصّدئة الّذين سنحت لهم فرصة الإحتكاك بالمجتمعات الغربية الغازية وبمدارسها، وفهموا سرّ تفوّقها وأسباب هزيمتنا، وشرعوا في وضع الأسس الفكرية والفلسفية لجعل الشعوب النّائمة تنهض من سباتها، فيما انتفض فقهاء الجمود في وجه كل ما هو عصري، رافضين فكر “الإفرنج”، معتبرين ابتكاراتهم وطرق عيشهم بِدَعا يُحَرَّمُ على المسلمين التّشبّه بها، فحرّموا حتّى اللّباس الإفرنجي، بل وحرّموا حتّى الوضوء من الصّنابير على المذاهب الثّلاثة، ما عدا الحنفيّون الذين قالوا بإباحة ذلك، وبذلك أصبحت الصنابير تحمل إسم الحنفية.
وكان لزاما على روّاد الإصلاح أن يحاربوا على جبهات عِدّة: جبهة الجهل المترامية عروقه في أعماق الشّعوب النّائمة، وجبهة تجّار الدّين والغُلاة الخائفين من تزعزع سيطرتهم على عقول النّاس وعلى منظومة الإمتيازات التي يجنونها منها، وجبهة الخليفة العثماني وملوكه في أصقاع البلاد العربية والإسلامية الذين يرون في هذا الفكر الجديد تهديدا لشرعيتهم، وجبهة المستعمر الذي لا يريد السماح لهؤلاء بالتّمكّن من نفس أسباب تفوّقه.
ولئن بدأت بعض بوادر هذا النور القادم من الغرب تلوح في تونس التي أعلنت منع الرّق وميلاد أول دستور مدني في تاريخ العرب والمسلمين والأفارقة، أو في اصطنبول أين سمح الخليفة عبدالحميد الثّاني بسنّ دستور وبانتخاب برلمان، فإنّ كفّة الظّلاميّين سرعان ما رجحت، وتنكر باي تونس لدستورها تحت ضغطهم، فيما ألغى عبدالحميد الثاني الدستور وقام بحلّ البرلمان واحتجز جمال الدّين الأفغاني في الإقامة الجبرية. وقد كانت مواقفهم ثابتة على مدى التّارخ بجواز الرّق، إذ كان “الرأي السائد لدى فقهاء الإسلام هو اعتقادهم بأن شراء العبيد وبيعهم يعتبر عقدا صحيحا من حيث الأصل، وأن كل ما ارتقوا إليه في هذا السياق هو دعوة بعضهم إلى الرفق بهؤلاء العبيد، واعتبار أن لهم حقوق يجب مراعاتها مثل تجنب ضربهم، وعدم تجويعهم، والرفق بهم..” (صلاح الدين الجورشي).
مختصر الكلام، ورغم جميع الإحتياطات التي اتّخذها رواد الإصلاح لجعل أفكارهم تتماشى ومبادئ ديننا الحنيف، مرّة أخرى يجهض الحُكّام ومن والاهم من الظّلاميّين محاولةَ التّنويرِ هذه في المهد بحجة تعارضها مع الشريعة، ومع السّنة، ومع ما وجدنا عليه السّلف الصّالح، شأنهم في ذلك شأن الذين قال فيهم الله تعالى في كتابه العزيز: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا.
تمَّ إذنْ اضطهادُ رواد نهضة أواخر القرن19 وإجهاض مُحاولة الإستفاقة في مهدها باسم الدّفاع عن الشّريعة، ولكنّ بدايات القرن ال20 شهدت مرور الجماعة إلى الهجوم وتكوينهم لجماعة الإخوان المسلمين في مصر لإعلاء راية "الإسلام المبني على العدل بين الناس ورفع الظلم عنهم ودحر أعدائهم، عن طريق تطبيق الشريعة الإسلامية على المجتمع وإقامة دولة الإسلام كدين عقيدة وعبادة، وكوطن وجنسية، دين ودولة، روحانية ومصحف وسيف" جماعة تحمل في جيناتها أدبيات العنف الشرعي المتمثل في الجهاد حسب تفسيرهم له، ومعاداة الدّولة الوطنية بما هي عقبة لتحقيق الدّولة الدّينية الإسلامية العابرة للحدود والشّعوب، وقد كان لها صدى في تونس.
ففيما كان زعماء الحركة الوطنيّة يخاطبون الوازع الدّيني لدى الشّعوب التي تئن تحت نير الإستعمار، مستعينة بأجمل ما فيه من قيم، ألا وهي قيمة الحرّية، لاستنهاض الهمم وقدح زناد الثورة ودحر العدوّ بما يتطلبه ذلك من تضحيات بالنّفس والنّفيس، فإنّ الجماعة في عمومهم تركوا المستعمر يرتع في البلاد وصبّوا جامَّ سخطهم على كل مفكّر يتجرّأ على كسر طوق التقوقع والجهل والمطالبة بالتّحرر والإنعتاق، لا من ربقة الإستعمار فقط، بل من قرون الجهل والظّلامية والشّعوذة والإتّجار بالدّين التي كانت سببا في حالة التّخلف والوهن، وفي استباحة أرض الوطن، وكعادتهم في كل مرّة يريدون فيها تكميم أفواه الحرّية، يلجئون لمقولة الإسلام في خطر حين لا خطر على الإسلام سواهم، ويُكفّرون مخاطبيهم، ومثلما كفّروا ابن رشد وغيره من قبل، فقد كفّروا الطّاهر الحدّاد دون قراءة كتابه، وكفّروا طه حسين لمجرّد بحث علمي، وكفّروا الشّابي لمجرّد بيت شعري، الشّابي الّذي قال فيهم:
إنَّما عَبْرَتِي لِخَطْبٍ ثَقِيلٍ قد عَرانا، ولم نجد من أزاحهْ
كلّما قامَ في البلادِ خطيبٌ، مُوقِظٌ شَعْبَهُ، يُرِيدُ صَلاَحَهْ
ألبسوا روحَهُ قميصَ اضطهادٍ فاتكٍ، شائكٍ، يردُّ جِماحَهْ
وتوخَّوْا طرائقَ العَسف والإرهَاقِ تَوًّا، وَمَا تَوَخَّوْا سَمَاحَهْ
وبعد أن تكلّلت ثورة الشّعب التّونسي بالنّصر على المستعمر سنة 1955، وبالإستقلال والجمهورية ومجلة الأحوال الشّخصية سنة 1957، وبالدّستور سنة 1959، وبوضع أسس الدّولة الوطنية الني تمثّل عَدُوَّهم الّلدود، وببقية إنجازاتها كالبنية الأساسية والتعليم والصّحة، ثم بعد ثورة الشعب من جديد على نظام الإستبداد الّذي ساهموا في إكسائه الشرعية عبر المقولة الشّهيرة “ربي الفوق وبن علي لوطا” وعبر توقيع قيادتهم على وثيقة العقد الإجتماعي التي تمكّن بفضلها بن علي من الإستيلاء على الدّولة ومستحقّات الشعب، راحوا يبثّون سموم الفتنة والحقد على كلّ ما هو وطني جميل، بل وحتّى حاولوا الإستيلاء على إرث الثّورة الأولى بالبحث لهم عن جدّ مشترك مع المجاهدين (الثعالبي)، وبتمجيد الباي بصفته رمزا للخلافة العثمانية، وبالإستيلاء على ذاكرة بعض معارضي بورقيبة وتبنّيهم على أنّهم من صفوف الإخوان (بن يوسف)، ثم انقضّوا على الدّولة بعد ثورة 14 جانفي، مغتنمين فرصة نشوة الشّعب بالإنتصار على المستبدّ الذي كانوا بالأمس يُمجّدونه ولم ينقلبوا عليه إلا عندما خاب أملهم في مشاركته الحكم وجني ثمار تواطؤهم، وفخّخوا هياكلها بالمندسّين والمُوالين والفاسدين، وأحكموا سيطرتهم على مؤسّساتها التي قال زعيمهم في يوم من الأيّام أنّها غير مضمونة، وشرّعوا لاستباحة دمائنا، وعقدوا مؤتمر أعداء سوريا والأمّة في تونس، وغرّروا بالشباب اليائس وبعثوا به لمحرقة الحرب هناك، وحتّى بالنّساء إلى جهاد النّكاح، وفتحوا البلاد على مصراعيها لأصدقائهم من دعاة ختان البنات وشرب بول البعير بعد أن كانت تونس مثالا للتّقدّمية ومنارة للمعرفة، ثم لحلفائهم من الدّول الرّاعية للإرهاب والتي يتأهبون لإمضاء اتفاقيات معها تُكرّس هيمنتها على السّادة الوطنية، كلّ ذلك باستغلال ضعف الأحزاب الأخرى وتواطؤها، وتشتّت المغفلين وبقية القوى الحية، ويبقى الهدف الأخير من كل ذلك هو التّمكن من أجل هدم الدّولة الوطنية وإقامة دولة الخلافة بقيادة أردوغان وبتمويل من قطر.
يتّضح إذن جليّا أنّ تسمية هذه الطّغمة الظلاميّة الظّالمة العميلة بمُسَمَّى “النّهضة” تحيّلٌ تاريخيٌّ على المفهوم الحقيقي للنّهضة المستنيرة العادلة التّحرّرية، وخدعة تاريخية وفلسفية قد تَخفَى عن الكثيرين من خصومها وحتّى من مناصريها، لأن فيها سطو على مصطلح هو في الأصل رديف لفكر مضادّ لها، وأنّ مشروعها السّياسي معاد لنهضة الدّولة التّونسية ولسيادتها، وبالتّالي وجب التّعامل معها سياسيا وقضائيّا وعسكريّا إن لزم الأمر كتنظيم عدوّ، لأنّها لم تتردّدْ في تكوين جناح سريّ لها، وفي تهديد التّونسيّين باستباحتهم في الشّوارع، بما يوحي بتحوّزها على الإمكانيات العسكريّة لذلك.
وقد تولّيت في مقال سابق تحليل هذه الحقبة بأكثر إطناب وعرضت على الجميع بما فيهم قيادات النّهضة مشروع حلّ لمعضلة هذا الحزب كتنظيم سياسي ذو نزعة إسلامية في بلاد شعبها مسلم في أغلبيته، تنظيم يمثل تهديدا لوجود الدّولة في حدّ ذاتها، مُعوّلا في ذلك على حكمة الجميع، غير أنّي في الحقيقة فعلت ذلك أيضا تبرئة لذمّتي إزاء الجميع أيضا، حتّى لا يقال أنه لم يوجد في هذه البلاد أصواتا عاقلة لتجنيبها مغبّات الإصطدامات، وإرضاء لضميري إزاء أبنائي ومعاصريهم من الأجيال اللاحقة.
لذلك، لست مستغربا اليوم من مكوث هذا النّداء غير مسموع، في خضمّ انهماك الجميع في حساباتهم للتّمركز على رقعة الشطرنج الحزبية والبرلمانية والحكومية الضّيقة ولمزيد نهب البلاد مقابل القضاء على الطّبقة الوسطى وتجويع الكادحين والعاطلين وأصحاب المؤسّسات التي لم تخضع لابتزازاتهم.
غير أنّي أتوجّه بنداء جديد، ولكن هذه المرّة لجميع القوى الحيّة الوطنيّة (يعني غير المرتهنة للخارج وغير المتواطئة مع الممثّل المحلّي لتنظيم الإخوان)، لدعوتهم لعدم الإنخراط في حملات الشتيمة البدائية المستهدفة للطّغمة المُسمّاة بالنّهضة، لأنّ الشّتيمة قد تُروّح على أنفس البعض، ولكنّها ليست من شِيَمِنا، ولا تحل المشاكل، بل تُعقّدها، وتجعل الصّعب مستحيلا، بما تحمله من شحنة حقد تجاه كثير من المتعاطفين الأبرياء، أناس أكثرهم قد لا يتّفقون مع قياداتها، ولكنّهم انخدعوا بخطابها المُنمّق لفرط طيبتهم ولظنّهم أنّها فعلا تدعو لإعلاء الحق والعدل.
لقد أظهرت التّجربة أن لا شيء نهائيٌّ في السّياسة، وأن ذلك الحزب القوي المنظَّم الجارف لكل من يقف أمامه خسر ثلثيْ ناخبيه بين 2011 و2019، وأصبح يلهث على إبرام تحالفات مع أحزاب اتّخذَ مُرشِدُهُ وعدا أمام الملأ بعدم التّحالف معها في سقطة أخلاقية مُدوّية بالنسبة لتنظيم بَنَى إيديولوجيته كذبا على أخلاق الإسلام والقرآن القائل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ”، لذلك فإنّ من تولّوا التّجريح في النّهضة سنة 2011، يكونوا قد جرّحوا في المليون ناخب الذين انصرفوا عنها، بمعنى أنّ من نُجرِّحُهم اليوم ليسوا بالضّرورة ممّن يتبنّون منهج النّهضة في ممارسة السّلطة والإنحراف بها، ولا قيامها على العنف السياسي، وقد يكونون رفاق الطّريق في الغد القريب.
Nous vous accordons par ces présents documents, avec notre Autorité apostolique, la permission pleine et gratuite d'envahir, de rechercher, de capturer et de subjuguer les Sarrasins et les païens et tous les autres incroyants et ennemis du Christ où qu'ils soient, ainsi que leurs royaumes, duchés, comtés, principautés et autres biens […] et de réduire leurs personnes en servitude perpétuelle.
حركة النهضة حزب سياسي وطني ذو مرجعية إسلامية.
يعمل في إطار الدستور ووفقا لأحكام المرسوم عدد87 لسنة 2011 المؤرخ في 24 سبتمبر 2011 المتعلق بالأحزاب السياسية وفي إطار النظام الجمهوري على الإسهام في بناء تونس الحديثة، الديمقراطية المزدهرة والمتكافلة والمعتزة بدينها وهويتها وتسعى إلى ترسيخ قيم المواطنة والحرية والمسؤولية والعدالة الاجتماعية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.