لطالما اعتُبرت صناديق التضامن النقابية في مصر شبكة أمان اجتماعي، غير أنّها باتت اليوم على وشك الانهيار. ففي ظلّ التضخم، وتراجع قيمة العملة، والتشريعات الصارمة، لم تعد هذه الصناديق تلبّي تطلعات مئات الآلاف من المنخرطين فيها. منذ ثلاثين عامًا، كان الأستاذ مؤمن (اسم مستعار) يدفع بانتظام مساهمته الشهرية في صندوق التضامن التابع لنقابة المعلّمين، آملاً أن يتمكّن في سنّ التقاعد من تزويج ابنته بطريقة تليق بها، أو شراء شقة متواضعة في القاهرة. اليوم، وبعد أن بلغ سنّ المعاش، اكتشف أنّ المبلغ الذي ادّخره بالكاد يكفي لشراء غرفة نوم بسيطة. 700 صندوق و100 مليار جنيه... مجمّدة في البنوك وفقًا لهيئة الرقابة المالية المصرية، بلغ عدد صناديق التضامن في البلاد بنهاية سنة 2023 أكثر من 700 صندوق، بإجمالي أصول تقدّر بحوالي 100 مليار جنيه مصري (نحو 2 مليار دولار). وتدير هذه الصناديق نقابات أو جمعيات مهنية، ومن المفترض أن تُمنح إعانات منها في حالات التقاعد أو الوفاة أو العجز. لكن في الواقع، فإنّ جزءًا كبيرًا من هذه المليارات مجمّد في استثمارات مصرفية منخفضة العائد. فالقانون رقم 54 لسنة 1975 الذي ينظّم استثمارات هذه الصناديق، يفرض إيداع 50% من أموالها في شهادات بنكية، ويحدّ بشدّة من الاستثمار في أصول أكثر ديناميكية مثل العقارات أو الذهب أو الأسهم، وقد يمنعها تمامًا. التضخّم ينهش القيمة الحقيقية للمعاشات مع وصول معدلات التضخم إلى أكثر من 30% في بعض الأشهر، وتراجع قيمة الجنيه المصري بنسبة تفوق 300% خلال 8 سنوات، أصبحت المعاشات المسلّمة لا تساوي شيئًا يُذكر. فعلى سبيل المثال، يمنح صندوق نقابة الصحفيين منحة نهاية خدمة تتراوح بين 100 و223 ألف جنيه (نحو 2000 دولار)، وهي قيمة لم تعد تضمن الحدّ الأدنى من الكرامة بعد التقاعد. وحذّر الدكتور حماد الرمحي، عضو مجلس صندوق نقابة الصحفيين، من أنّ "العوائد الحقيقية أصبحت اليوم سلبية. الاستمرار في الاستثمار بعائد 15% بينما يبلغ التضخم ضعف ذلك هو بمثابة التضحية بمدّخرات الأعضاء". ودعا إلى إعادة هيكلة عاجلة للمحفظة الاستثمارية، تشمل أذون الخزانة والأسهم القوية، وإعادة تقييم المساهمات خاصة للفئات العليا. شهادات حيّة واقتراحات ملموسة في قطاع التعليم، لا يتجاوز المبلغ الذي يتحصل عليه المعلّمون المتقاعدون 50 ألف جنيه (نحو 1000 دولار)، بحسب الدكتور سمير نيلي، رئيس نادي المعلّمين في الإسكندرية، الذي دعا بدوره إلى تحسين الرواتب لتمكين الأعضاء من المساهمة بمبالغ أكبر. أما في قطاع المحاماة، فقد أشار محمد عبد الوهاب من نقابة المحامين إلى مشكلة أخرى تتمثّل في عدم انتظام بعض الأعضاء في سداد الاشتراكات. فرغم أن هذه الصناديق لا تزال تؤدّي دورًا مهمًا في حالات الوفاة المفاجئة، فإنّ قيمتها الحقيقية تتآكل بسرعة. واقترح دمج بعض الصناديق في مؤسسات عمومية أكثر تنظيمًا، تعتمد أدوات استثمار أكثر تنوّعًا. قانون متقادم وقواعد جامدة يرى أستاذ الاقتصاد إيهاب الدسوقي أن المشرّع المصري يركّز على ضمان ما يبدو آمنًا على حساب المردودية الفعلية. ودعا إلى مراجعة دورية للقوانين لتتماشى مع الواقع الاقتصادي المتغيّر. كما أشار إلى التفاوت في أداء الصناديق، فبينما تنجح نقابة المهندسين بفضل إدارتها المنضبطة، تغرق صناديق أخرى في سوء إدارة، أحيانًا بسبب غياب الشفافية أو الرقابة. نماذج عربية أكثر مرونة ذكّر الدكتور السيد عبد اللطيف، أستاذ المالية بجامعة الإسكندرية، بأنّ عدّة دول عربية تمنح لصناديقها استقلالية أوسع. ففي الأردن، يُسمح باستثمار 25% من الأصول في العقارات، كما يُسمح بالمشاركة في شركات استراتيجية. أما في دول الخليج، فتعمل صناديق التضامن كأذرع مالية قوية، توزّع أرباحًا سنويّة على الأعضاء. ويرى الخبير أن الحلّ يكمن في تنويع الاستثمارات: ذهب، عقارات، أذون خزانة، أسهم، مع الاعتماد على المنتجات المصرفية فقط كمكمّل. لكنّه لفت إلى احتمال وجود إرادة سياسية للإبقاء على رؤوس الأموال داخل المنظومة المالية للدولة. ففي فترات الأزمات، تُمكّن ودائع الجنيه المصري في البنوك الحكومية من دعم خزينة الدولة والسيولة، ولو كان ذلك على حساب القدرة الشرائية للمواطنين. نحو فقدان الثقة في نموذج الحماية الاجتماعية بين قوانين جامدة، وتضخّم متسارع، وخيارات استثمار محدودة، تجد صناديق التضامن النقابية في مصر نفسها عاجزة عن أداء دورها الأساسي: حماية المتقاعدين وأسرهم من أزمات الحياة.
وإذا لم تُنفّذ الإصلاحات المقترحة، فإنّ ثقة الأعضاء في منظومة الحماية الاجتماعية غير الحكومية ستتراجع بشدّة، ما قد يُبدّد مدّخرات عقود بأكملها بسبب الجمود والتقصير. تعليقات