يقول خبير الأسلحة النووية هينري كيسنجر مهندس اتفاقية "سالت SALT " الموقعة بين نيكسون وبريجنيف عام 1973 بأن السلام لا يلد عن طريق المسالمين les pacifistes))، وإنما السلام يستتب عند الحصول على إجماع دولي حول مبدأ توفيقي معروف بإسم "الشرعية الدولية" وأن تكون هذه الشرعية معترفا بها من جميع الأطراف الدولية، بل ويكفي أن تكون محل اتفاق بين القوى العظمى والفاعلة على الساحة الدولية. لقد طلب كيسنجر الألماني الأصل، بانخراط القوى العظمى في نمط معين (امريكي) من الهياكل الدولية، وشد النسيج الدولي لتجنب الحروب، وحل المشاكل والنزاعات الدولية داخل هذا الإطار. فإذا ما اتفقت القوى العظمى حول قواعد اللعبة الديبلوماسية ووسائلها وأهدافها فإن شبح الحرب (النووية) بين كتلة أمريكا ومعسكر السوفيات سيزول. ومن هنا بات المجتمع الدولي المتجانس وحده القادر على ضبط واستتباب الأمن والاستقرار الدولي، لأن أعضاءه انخرطت فيه على نفس المبادئ وتتقاسم نفس القيم. وبتجانسها تحصر المجموعة الدولية كل النزاعات فيما بينها، بل ويصبح حتى العصيان الداخلي قضية هذه المجموعة بأسرها، لأن المتمردين أعداء الجميع في ميزان كيسنجر المستشار السياسي الكبير في البيت الأبيض لما يقارب ثلاثة عقود من الزمن. فكيسنجر يرى أن المجموعة الدولية المتجانسة تكون سدا واقيا من تطفل القوى الثورية على الساحة الدولية، ولكن هذا الجدار يظل هشا أمام غليان وهيجان التكتلات المعارضة، هذا ما جعل كيسنجر يتراجع عن قوة التجانس ضد من لا يتجانس، في دراسة له حول العلاقات بين السياسة الداخلية والسياسة الدولية نشرت في مجلة "Daedalus" في أفريل عام 1966، ليوجه سهمه هذه المرة تجاه الزعيم الثوري، حين أدرك أن تنوع أنماط الزعماء هو التحدي الحقيقي لإقامة نظام دولي مستقر. فرجل الدولة الذي يعيش الحاضر يؤمن بالتفاوض، لأنه يؤمن بالتوصل الى حلول حول المطالب المتعارضة، هدفه البحث عن الاستقرار، في حين أن الزعيم الثوري يريد تصدير ثورته إلى بقية العالم، فهو النبىء الذي يبشر بالجودة والإتقان، وعملية التفاوض عنده ليست سوى لعبة قذرة، وبالتالي لا مفر من النزاع والقتال بين رجل الدولة والزعيم الثوري (قد يكون آل بوش وصدام حسين مثالا على ذلك)، لذا التخلص من القائد الثوري واجب مقدس في دستور العلاقات الدولية الذي نحت فصوله كيسنجر. مسلسل تحطيم معسكر السوفيات والتهديد باحباط أي محاولة للحد من قوة وغطرسة أمريكا هل يتحقق حلم كيسنجر في إرضاخ الإتحاد السوفياتي (سابقا) والصين الشعبية لمجلة سلوك مشتركة، بل وإخضاعهما لمجلة اللعبة الديبلوماسية الأمريكية الصنع؟ انطلق التخطيط بجدية لتفكيك كتلة الإتحاد السوفياتي (سابقا) على يدي رئيس جمهورية أمريكا الأسبق نيكسون الذي قام بزيارة الغدر إلى بكين، وبادر بتحسين علاقات الخداع مع الإتحاد السوفياتي(سابقا). حتى أن كيسنجر هدد كتلة الشرق يوم 22 جوان 1973 عقب زيارة بريجنيف لواشنطن وما تلتها من اتفاقيات، وخاصة منها المتعلقة بالأسلحة النووية، بأن نظام "يالطا" دفن، وأن على الدول الصغرى عامة والأوروبية منها بوجه خاص، أن لا تبحث عن الأمن في انحيازها وراء قوة عظمى (الإتحاد السوفياتي سابقا)، وإنما الأمن في توازن السلط. ولكن مصيبة كيسنجر هو أنه أصيب بضيق فى التنفس حالما تم تعيينه وزيرا للدبلوماسية الأمريكية في أواخر أوت 1973، حين تتالت أحداث ساخنة وأخرى فظيعة، بعضها على الساحة العالمية وأخرى في ساحة واشنطن الداخلية بذاتها. ففي أوائل أكتوبر1973 اندلعت المعركة الرابعة من الحرب العربية - الإسرائيلية، ليعود التهديد الأمني بين كتلة الغرب وكتلة الشرق، حتى أن الأمور إجتازت الخطوط الحمراء ويرفع الإنذار النووي "L'alerte nucleaire" يوم 25 أكتوبر 1973، إنذار لطالما اعتقد كيسنجر أنه اندثر وولى مع أزمة كوبا عام 1962. وخلفت عودة جيوش أمريكا المهزومة في حرب فيتنام الشيوعية إلى واشنطن عام 1974 ينقصهم ما يقارب 60 ألف جندي عبثت بأرواحهم أسلحة المقاومة الفيتنامية على الرغم من استخدام واشنطن قنابل النابالم، وفضيحة "واتر-غايت" التي أهدت تذكرة الإنسحاب للرئيس نيكسون من البيت الأبيض عام 1974، وتورط كيسنجر فى إنقلاب بيونشيه الدموي عام 1973، جروحا مفتوحة في سياسة واشنطن الدولية. قد تكون الإمبريالية الجديدة لا تتأثر كثيرا لا بالفظائع العسكرية ولا بالفظائح السياسية، إلا أن هذه الأحداث المتلاحقة أبعدت ولو إلى حين جمهورية أمريكا عن البيت الأبيض عام 1977، وأقصت كيسنجر الوزير الدبلوماسي من عالم السياسة، مؤجلة معركة تفكيك الإتحاد السوفياتي وحلف السوفيات إلى رئيس جمهورية أمريكا الأسبق رونالد ريغن الذي أعان شيوخ المقاومة الأفغانية في محاربتهم للغزو السوفياتي (1979-1989) لا بالأسلحة الحربية فقط، بل وباستخدام الحظرالإقتصادي والتكنولوجي أيضا تجاه رجل التعايش السلمي في موسكو. وواصل آل بوش مسيرة الغدر والهيمنة إلى أن نجح جورج بوش الأب في تنفيذ ما خططه نيكسون وريغن، فقضى بالتعاون مع يلتسين على غورباتشوف وما كان يعرف بالإتحاد السوفياتي، لينهار جدار برلين عام 1990، ويفرغ حلف فرصوفيا من مضمونه بتوقيع اتفاقات 1990 التي تقضي بسحب الفرق السوفياتية من المجر وتشيكوسلوفاكيا، فيحله أعضاؤه رسميا عام 1991. ليدشن العالم عالم القطب الواحد تحت قيادة إمبراطورية لا تقبل العناد، لا في الإقتصاد ولا في السياسة، مما عمق حالة اللااستقرار على الساحة الدولية. وكان لنتيجة السلب والقهر في سياسة واشنطن الدولية أن تفقد الولاياتالمتحدة الأمن والأمان، حتى أنها أصبحت اليوم تشعر أن أراضيها ومواطنيها باتوا مهددين مؤقتا على الاقل، فاختارت الرد على العنف بالعنف عبر استراتيجية تدخل نشيط تهدف إلى ضرب مصادر التهديدات. تحديات وخيارات قد نتغنى بأن نهاية الحرب الباردة حررت مقدارا ضخما من الموارد البشرية والمالية والطبيعية، كانت في السابق مقيدة في خدمة التهديدات والمواجهة النووية الشاملة، إلا أن الإدارة الأمريكية الحالية أضحت أكثر من سابقاتها تهدد بضرب مصادر التمرد على النظام الدولي (الأمريكي الصنع) لا بالأسلحة الحربية فحسب، وإنما أيضا بالسلاح الاقتصادي والمالي والتكنولوجيا. يقول بوش الثاني: "بقوتنا وثروتنا سنجعل نحن الأمريكيين القرن ال21 قرن سلام وحرية وأمل"، فأمريكا سائق عالم القطب الواحد تملك تفوقا لا يمكن تحديه في مجالات الأسلحة النووية والإشعاعية والكمياوية والبيولوجية والتكنولوجيا العسكرية، مدعوما بأقوى إقتصاد، ونفوذ عالمي في ميدان الاتصالات. فلا أحد يجادل اليوم في أن وضع الولاياتالمتحدةالأمريكية بصفتها القوة العظمى الوحيدة في العالم يعتبر واقعا ملموسا منذ عام 1990، بل وأصبح عنصرا بارزا وحاسما على الساحة الدولية منذ أحداث طائرات 11 سبتمبر المجنونة. فإدارة بوش الثاني ما انفكت تعلن بوضوح أكبر من الإدارات السابقة بتفوق الولاياتالمتحدة في القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية على الساحة الدولية، وتهدد بإحباط أي محاولة للحد منه. في زمن لم تعد سياسة روسيا تقدم تحديا عاما أو فعلا موازنا للقيادة الامريكية ولو على الصعيد السياسي، فروسيا تضاءلت قدرتها على توجيه الأحداث خارج حدودها، بل أصبحت موسكو تهرول اليوم إلى إيجاد أرضية مشتركة في النقاشات الجارية في الغرب بشأن القضايا الاستراتيجية الرئيسية كمصادرالإرهاب وانفلات الأسلحة النووية والتغيرات الكارثية في المناخ. واستراتيجيات الصين الأمنية ترتكز على المنطقة المجاورة لها لا غير. ورغم أن الاتحاد الأوروبي بات يلعب دور المنافسة العنيدة في القوة الاقتصادية الدولية، إلا أن دوره في مجال الأمن العالمي يظل منقوصا، لا لأن أوروبا الليبرالية كانت وتظل شريك الولاياتالمتحدة الراسمالية في ميدان الدفاع المشترك عبر حلف شمال الاطلسي وأنهما يعتمدان كل على الأخر لمواجهة التهديدات الجديدة، بل لأن الشخصية الأمنية الأوروبية المشتركة لا تزال منذ نشوئها عالقة بسيناريوات محددة ومحدودة لإدارة الأزمات، وحتى عندما ينجح النفوذ الأوروبي في تعديل الممارسات العسكرية الأمريكية على الساحة الدولية فإن ذلك ينسب عادة إلى دول أوروبية محددة ولزعمائها بدلا من أن يصب في رصيد الإتحاد الأوروبي ككل. لم تعد توجد مجموعة متماسكة من الدول ضمن النظام الدولي الحالي تعارض بشكل واضح حرية إقتصاد السوق وفلسفة التعاون الأمني وتقدم بديلا لهما، وظهر بوضوح وحدة الإفتقار إلى وجود هياكل دولية شرعية قادرة على إصدار التشريعات للمجموعة الدولية، والتحرك لتطبيقها وفرض احترامها، وضبط السلام والأمن الدولي وخدمة القضايا الإنسانية. إن عالمنا اليوم في حاجة إلى أكسيجان الإستقرار، ومحاربة الفقر وتبييض الأموال ودعم معركة التنمية عند المتخلفين، وضبط انفلاتات الأسلحة النووية. وعلى دول عالمنا اليوم وفي مقدتها الدول الصناعية العمل بجدية أكبر في مجال مكافحة التلوث البيئي الذي غير المناخ وما صاحبه من كوارث إنسانية مرعبة وتتدهور للمحاصيل الزراعية سنة تلو السنة، كما هي مدعوة أيضا إلى بذل جهد أعظم في معالجة الأمراض الفيروسية وعديد الأوبئة الفتاكة مثل أوبئة السل والملاريا، في هذا الزمن المحموم الذي صارت فيه الكثير من "المكروبات" قابلة للتعايش مع المضادات الحيوية. والمتخلفون مطالبون بدورهم بمحاربة الفساد المالي والفساد الإداري، وتأمين نشوء سلطة عقلانية ومستقرة من أجل تثبيت الاستقرار السياسي. فهل تسخر أنظمة عالمنا اليوم الجهود والأموال من أجل تثبيت الإستقرار ودعم البحث العلمي والتكنولوجي خدمة لهذه القضايا الإنسانية أم أنها ستواصل السباق في الفساد والتسلح؟. (*) إطار بنكي، باحث وكاتب صحفي