قد لا يجادل أحد في أن وضع الولاياتالمتحدةالأمريكية بصفتها القوة العظمى الوحيدة في العالم يعتبر واقعا ملموسا منذ عام 1990، بل وأصبح عنصرا بارزا وحاسما على الساحة الدولية منذ أحداث طائرات بن لادن المصابة بالجنون عام 2001. فإدارة بوش الصغير، بوجه خاص، كانت تعلن باستمرار وبوضوح أكبر من الإدارات السابقة بتفوق الولاياتالمتحدة في القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية على الساحة الدولية، وتهدد بإحباط أي محاولة للحد منه، بل وصل الأمر ببوش الثاني إلى حدّ التهديد بفرض الأمن والحرية على المجموعة الدولية كما يراهما هو، عبر قوة أمريكا المالية والاقتصادية والتكنولوجيا العسكرية، إذ ما انفك يهذي أيام تربعه على كرسي البيت الأبيض: «بقوتنا وثروتنا سنجعل نحن الأمريكيين القرن ال21 قرن سلام وحرية وأمل». فأمريكا سائق عالم القطب الواحد منذ انهيار جدار برلين تملك تفوقا لا يمكن تحديه في مجالات الأسلحة النووية والإشعاعية والكيمياوية والبيولوجية والتكنولوجيا العسكرية، مدعوما بأقوى اقتصاد ونفوذ عالمي في ميدان الاتصالات. ورغم أنّ الاتحاد الأوروبي بات يلعب دور المنافس العنيد في القوة الاقتصادية والمالية الدولية، إلا أن دوره في مجال الأمن العالمي يظل منقوصا، لا لأن أوروبا الليبرالية كانت وتظل شريك واشنطن الرأسمالية في ميدان الدفاع المشترك عبر حلف شمال الأطلسي، وأنهما يعتمدان كل على الآخر لمواجهة التهديدات الجديدة، بل لأن الشخصية الأمنية الأوروبية المشتركة لا تزال منذ نشوئها عالقة بسيناريوهات محددة ومحدودة لإدارة الأزمات، هذا ما يجمع عليه عديد الدبلوماسيين والمفكرين في بلاد الغرب. أما السياسة الروسية، فلم تعد أو بالكاد تقدم تحديا عاما أو فعلا موازنا للقيادة الأمريكية ولو على الصعيد السياسي. وحتى وإن عاد مؤخرا قائد الاتحاد السوفياتي «السابق» يلعب دورا يشد بعض الاهتمام على الساحة الدولية، تبقي قدرة روسيا على توجيه الأحداث خارج حدودها منقوصة. فموسكو ما انفكت تهرول منذ مطلع تسعينات القرن الماضي نحو إيجاد أرضية مشتركة في النقاشات الجارية في الغرب حول التغيرات المرعبة في المناخ، وانفلات الأسلحة النووية، وقضايا الإرهاب. في وقت باتت فيه استراتيجيات الصين الأمنية ترتكز على المناطق المجاورة ليس إلا. انطلق مسلسل السباق نحو التسلح النووي عشية نهاية الحرب العالمية الثانية ببدء واشنطن إجراء أولى تجاربها النووية في عام 1945، لتلتحق بها موسكو ولندن وباريس وبكين في مرحلة أولى، وإسرائيل والهند وباكستان في مرحلة لاحقة، حين كان شعار الردع النووي هو السائد أيام الحرب الباردة، وبعد أن ثبت الغرب الاستيطان الإسرائيلي في نقطة الربط بين آسيا وأفريقيا العربيتين. وجاءت أولى الخطوات بخصوص التفاوض حول خفض التجارب النووية في عهد إدارة الرئيس الديمقراطي جون كينيدي، قاد إلى توقيع واشنطنوموسكو ولندن(وغياب فرنسا والصين كقوتين نوويتين) على معاهدة الحظر المحدود للتجارب النووية في أكتوبر(تشرين الأول) 1963 التي تحظر إجراء تجارب نووية في الهواء، وفي الفضاء، وتحت الماء، ودون أن تشمل التجارب النووية تحت الأرض، حيث خففت هذه المعاهدة الخوف من خطر التساقط النووي من الغلاف الجوي. وما إن خيم الرعب على الكبار من إمكانية انتشار أنفلونزا السلاح النووي عند الثوريين الجدد، حتى سارعوا إلى جلب الصغار وتطعيمهم، ليوقعوا على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية «NPT» في جويلية (تموز) 1968 في عهد إدارة الديمقراطي جونسون. معاهدة لا تزال منقوصة بوجود أطراف نووية (إسرائيل والهند وباكستان) خارجها، إضافة لإيهام الصغار بالعمل على إنهاء التسلح النووي، والتعاون في مجال تطوير التكنولوجيا النووية السلمية. ومع بزوغ عصر جديد لتحسين العلاقات الأمريكية السوفياتية، في ما بين أواخر ستينات وأواخر سبعينات القرن العشرين، بدأت النقاشات حول خارطة تخفيض الأسلحة الهجومية الإستراتيجية بين واشنطنوموسكو. وقادت الدورة الأولى من المباحثات والنقاشات حول فرض قيود على الأسلحة الإستراتيجية سالت «SALT» إلى التوقيع على معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية «ABM»، والاتفاق على إطار عمل لتخفيض الحد الأقصى لأنظمة إطلاق الرؤوس الحربية النووية، وتبادل الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ورئيس الوزراء السوفياتي ليونيد بريجنيف وثائق المعاهدة في 29 ماي(أيار) 1972. وفي ثمانينات القرن الماضي تضاءل عهد الوفاق بين واشنطنوموسكو، أيام وجود الجيش الأحمر في أفغانستان، وتربع المحافظ المتطرف رونالد ريغان على كرسي الحكم بالبيت الأبيض، تعطلت لغة الكلام بين الطرفين، مما قاد إلى حشد متجدد للأسلحة النووية والتقليدية. بل وصل الأمر إلى حدّ قيام موسكو باستعراض عسكري ضخم في الساحة الحمراء عام 1982، وإلى حدّ إعلان إدارة البيت الأبيض مع منتصف ثمانينات القرن الماضي بأن القرارات التي ستتخذها واشنطن مستقبلا حول الأسلحة الهجومية الإستراتيجية سوف تستند إلى حجم وطبيعة التهديد اللذين تطرحهما القوات الدفاعية الإستراتيجية السوفياتية وليس إلى شروط معاهدة سالت. ورغم لغة التهديد والتهديد المضاد، واصل الطرفان إجراء حزمة جديدة من المحادثات حول تخفيض الأسلحة الهجومية الإستراتيجية والحد منها، إلى أن قدم ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس لما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي، إلى السلطة في الكرملين، وقتها عادت لغة الحوار، وقادت إلى تبادل غورباتشوف وريغان في عام 1987 القلمين اللذين وقعا بهما على معاهدة إزالة الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى«INF» التي أزالت من الوجود فئة من الأسلحة النووية، وقيدت نشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى، من بينها صواريخ كروز الموجهة والتي يتراوح مداها بين 490 5470 كلم. إطار بنكي حقوقي نقابي باحث وكاتب صحفي متخرج من كلية الاقتصاد بجامعة سترازبوغ الفرنسية