بعد اكثرمن سنتين على قرار هيئة الاممالمتحدة تعيين القس الجنوب افريقي ديسموند توتو رئيسا للجنة تقصي الحقائق في مجزرة بيت حانون التي ارتكبتها المدفعية الاسرائيلية في قطاع غزة تمكن صاحب جائزة نوبل للسلام من اقتلاع ورقة العبور الى القطاع المحاصر التي طالما تمنعت السلطات الاسرائيلية في منحها له وعرقلة جهوده في كشف ملابسات المجزرة التي استهدفت عشرين فلسطينيا اغلبهم من عائلة واحدة بينهم نساء واطفال ليكون بذلك ديسموند توتو اول من يتجرا على تجاوز احد الخطوط الحمر الاسرائيلية ويقف على حقيقة الوضع الماساوي في القطاع المعزول عن العالم منذ سنة الان بسبب سيطرة حماس عليه... صحيح ان زيارة توتو تاخرت كثيرا بسبب ممانعة اسرائيل المستمرة في السماح له بدخول القطاع وصحيح ايضا ان هذه الزيارة التي تعتمت عليها مختلف الاوساط الاعلامية الغربية جاءت بعد ان استكملت الالية العسكرية الاسرائيلية ازالة مختلف وسائل الادانة وادلة ارتكاب المجزرة التي تضمنت كل اركان جريمة الحرب حسب اتفاقيات جنيف فقد كان صوت القس ديسموند توتو واهو يدين الجرائم والانتهاكات المقترفة في غزة وما رافقها من صمت وتواطؤ دولي كفيل باحراج لا سلطات الاحتلال وحدها ولكن بادانة كل القوى التي ساعدت وتساعد على استمرار الهمجية الاسرائيلية بما في ذلك الراي العام الاسرائيلي الذي ساهم بصمته وتجاهله جرائم حكوماته المتعاقبة في تحمل نصيب من المسؤولية الخطيرة التي تضع ديموقراطية اسرائيل المزعومة على المحك... لم تكن كلمات توتو وتصريحاته اللاذعة وصرخته بان ما يحدث في غزة عار على الانسانية وعار على المجتمع الدولي وعار على الضميرالعالمي وحدها التي منحت زيارة القس الانغليكاني وزنا خاصا لا سيما بعد ان باتت غزة المحاصرة اشبه بلعنة موبوءة يحرص الوسطاء والسياسيون والديبلوماسيون بل وحتى مبعوثي الرباعية وممثلي الاممالمتحدة للشرق الاوسط على تجنب تبعاتها ولم يكن الرفض الاسرائيلي لاستقبال رئيس لجنة تقصي الحقائق وراء صنع الخبر فديسموند توتو لم يكن اول من وجه مثل هذه الانتقادات الى اسرائيل ولم يكن ايضا اول من يمنع من دخول غزة ولعل في مختلف التقارير الدولية والانسانية التي صدرت على مدى الاشهر القليلة الماضية ما يؤكد ان ازمة غزة الانسانية لم تكن بعيدة عن اهتمام المنظمات الانسانية الحكومية او غيرها التي عجزت عن تغيير شيء من الامر الواقع.لقد منح دسموند توتو الى اهالي غزة ما لم يمنحه لهم احد من الديبلوماسيين الغربيين او العرب الذين لم يجرؤوا بل لعلهم لم يفكروا في زيارة القطاع مطلقا فتوتو لم يات الى غزة مناصرة لحركة حماس ولا كان هدف زيارته ايضا استنقاصا لحركة فتح او السلطة الفلسطينية والحقيقة ان الرجل تجاوز كل الجزئيات والتفاهات عندما ترجل من سيارته بعيدا عن كل العناصر الامنية المرافقة له ليصلي في هدوء في نفس المكان الذي شهد ارتكاب المجزرة قبل ان يتوقف لاحتضان اهالي الضحايا ويسمع شهاداتهم عن الجريمة... مشهد القس توتو وهو يعاين اثار القصف الاسرائيلي وما خلفه جدران البيوت ثم توجهه وهو يخفض راسه ويقبل جبين الشيخ سعد العثامنة الذي فقد ابناءه الثلاثة الذين تركوا عائلاتهم بلا سند في مجزرة بيت حانون ويستمع اليه وهو يردد كيف اغتالت القوات الاسرائيلية ابنائه فيما كان يؤدي صلاته قد اضاف بالتاكيد الكثير الى السجل الانساني والرصيد المناضل لهذا الرجل الذي اتهم بشتى الاتهامات بسبب مواقفه الجريئة التي لم تكن تخجل من كشف ممارسات نظام الميز العنصري في جنوب افريقيا والتي كلفته الكثير في حياته وحريته... توتو لم يحاول ان يخفي تاثره وهو يستمع لحكاية اسامة العثامنة الذي لخص ماساته في فقدان امه واخته وزوجته في تلك المجزرة التي نجا منها طفله الوحيد الذي انقذته جثة والدته . طبعا لا احد يتوقع ان يتغير المشهد في غزة ولافي الضفة بعد زيارة القس توتو فقد استمر المشهد على حاله بعد ادانة اسرائيل بسبب اغتيال ناشطة السلام الامريكية راشيل كوري التي دهستها جرافة اسرائيلية وازاد المشهد تعقيدا بعد اغتيال المصور والناشط البريطاني توم هيرندال وغيرهم ايضا من النشطاء الفلسطينيين والاجانب. ولا احد يتوقع ايضا ان تتوقف اسرائيل بعدها عن سياسة الاعتقال ومصادرة الاراضي وموسم الاغتيالات بل لعل غزة مقبلة عليه خلال الساعات على الاسوا في خضم الازمة السياسية الخانقة التي تمر بها حكومة ايهود اولمرت بعد اتهامه بالفساد واحتمالات لجوئه الى تصدير القضية الى خارج اسرائيل لتفادي تبعاتها كما جرت العادة في اسرائيل وهو ما تؤشر له عديد العناصر بدا بحملة الاعتقالات الموسعة التي بداتها قوات الاحتلال وصولا الى الزيارة المفاجئة التي سيقوم بها اولمرت الى واشنطن بحيث يبدو وكانه بعيد عن اي دور مباشر في الحملة العسكرية القادمة... لقد كان توتو صوت الضمير والوعي المكبوت وليس من المستبعد في شئ ان تنشط بعد هذه الزيارة الة الدعاية الاسرائيلية لتبحث عن اتهامات مزعومة تدين بها صاحب جائزة نوبل ومن يدري فقد تصل الى حد المطالبة بمحاكمته وحرمانه من اللقب الذي يحمله... لقد استحق ديسموند توتو لقب القس الانسان قبل ان يكون جنوب افريقي او فلسطيني او عربي تماما كما استحق رفيقه من قبله الزعيم نلسون مانديلا هذا اللقب الانساني الذي لا يخضع لحدود او لون او هوية ولا يعترف بالخصوص الى اي منصب... ما قاله توتو وهو يغادر غزة بان كل الاخبار والتقارير والدراسات التي تنشر كل يوم بل كل ساعة عن القطاع لا تعكس الحقيقة وان ما راه هناك يفوق كل التصورات شهادة على "نفوق" الضمير العالمي كما تنفق الدواب...