بوعرقوب: رئيس اتحاد الفلاحة يستنكر عدم اتّخاذ قرارات فعّالة للحد من انتشار الحشرة القرمزية    ملامحها "الفاتنة" أثارت الشكوك.. ستينيّة تفوز بلقب ملكة جمال    وزيرة التربية تطلع خلال زيارة بمعهد المكفوفين ببئر القصعة على ظروف إقامة التلاميذ    سيدي بوزيد: المجلس المحلي بسيدي علي بن عون يطالب السلطات بحل نهائي لإشكالية انقطاع التيار الكهربائي    توقيع اتفاق بين الحكومة التونسية ونظيرتها البحرينية بشأن تبادل قطعتيْ أرض مُعدّتيْن لبناء مقرّين جديدين لسفارتيهما    وزيرة الإقتصاد في الإجتماعات السنوية لمجموعة البنك الإسلامي للتنمية    هوغربيتس يحذر من زلزال قوي خلال 48 ساعة.. ويكشف عن مكانه    فرنسا تعتزم المشاركة في مشروع مغربي للطاقة في الصحراء    رئيس الفيفا يهنئ الترجي ع بمناسبة تاهله لمونديال الاندية 2025    الرابطة الأولى: تشكيلة النادي البنزرتي في مواجهة نجم المتلوي    رابطة الابطال الافريقية لكرة القدم - الاهلي المصري الى النهائي    دورة اتحاد شمال افريقيا لمنتخبات مواليد 2007-2008- المنتخب المصري يتوج بالبطولة    القطب المالي ينظر في اكبر ملف تحيل على البنوك وهذه التفاصيل ..    سيدي حسين : قدم له يد المساعدة فاستل سكينا وسلبه !!    فاطمة المسدي تطالب بترحيل الأفارقة.    سيدي بوزيد: انطلاق فعاليات الاحتفال بالدورة 33 لشهر التراث بفقرات ومعارض متنوعة    مسابقة أكاديمية الشّرق الأوسط للأطبّاء الشّبان بدبي: الدكتورة التونسية مريم بن عياد تفوز بالجائزة الأولى في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم السبت 27 أفريل    بنزرت: الافراج عن 23 شخصا محتفظ بهم في قضيّة الفولاذ    الرابطة الأولى: تشكيلة الإتحاد المنستيري في مواجهة الملعب التونسي    الناطق باسم محكمة تونس يوضح أسباب فتح تحقيق ضد الصحفية خلود مبروك    خبير تركي يتوقع زلازل مدمرة في إسطنبول    استشهاد شابين فلسطينيين وإصابة اثنين آخرين بنيران الاحتلال الصهيوني غربي "جنين"..#خبر_عاجل    عاجل/ الحوثيون يطلقون صواريخ على سفينتين في البحر الأحمر..    عاجل تلاميذ منطقة الحاج قاسم 2يستغيثون للمرة الثانية في نفس الأسبوع..الحافلة معطلة    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    كيف نتعامل مع الضغوطات النفسية التي تظهر في فترة الامتحانات؟    مذكّرات سياسي في «الشروق» (5) وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم الصادقية حاضنة المعرفة والعمل الوطني...!    أخبار المال والأعمال    "حماس" تعلن تسلمها رد الاحتلال حول مقترحاتها لصفقة تبادل الأسرى ووقف النار بغزة    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    فضاءات أغلقت أبوابها وأخرى هجرها روادها .. من يعيد الحياة الى المكتبات العمومية؟    تنديد بمحتوى ''سين وجيم الجنسانية''    الرابطة الثانية (ج 7 إيابا) قمة مثيرة بين «الجليزة» و«الستيدة»    رئيس الجمهورية قيس سعيّد.. المفسدون... إمّا يعيدون الأموال أو يحاسبهم القضاء    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    الكاف..جرحى في حادث مرور..    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    طقس الليلة    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    وزارة التجارة تتخذ اجراءات في قطاع الأعلاف منها التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    تقلص العجز التجاري الشهري    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سياسات ادارة بوش في ميزان نظرية الرموز الثقافية
نشر في الصباح يوم 07 - 06 - 2008

عندما يتابع المرء مسرح السياسة الدولية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 فإن زخمها وجرّها للمجموعة الدولية إلى حالة من الرعب والفزع والتوتر والفوضى يدعوان بقوة إلى التأمل فيها والسعي إلى كسب رهان دلالاتها وخفاياها وذلك عن طريق محاولة الفهم والتفسير لمجريات تلك الأحداث
في تناسقاتها وتناقضاتها. وللقيام بذلك باختصار شديد نكتفي بتقسيم هذا المقال إلى مقدمة وخمسة أجزاء يتمحور جلّها على السلوك الأمريكي في عالم اليوم في ظلّ إدارة بوش الصغير فأحداث 11/9/2001 جعلت بكل المقاييس الولايات المتحدة الأمريكية الفاعل الأبرز على الركح العالمي:
1) بصفتها المتضررة الأولى من الهجوم على نيويورك وواشنطن.
2) لكونها القوة العظمى الفريدة في عالم اليوم.
3) باعتبار أن فريق البيت الأبيض وعقوله المدبرة في إدارة بوش الابن هو فريق ذو عقائد وتصورات للعالم واستراتيجيات للهيمنة عليه لم تكد تعرف نظيرا لها الإدارات الأمريكية السابقة في العصر الحديث.
وعند فحص تأثير كل من هذه العوامل الثلاثة على سلوك إدارة بوش على المستويين الأمريكي والعالمي، فإن العامل الثالث يبرز بقوة على أنه هو الأهم. إذ أن المنظومة الثقافية والعقائدية هي الأكثر حسما في ميلاد وتوجيه وتجلي سلوكات بني البشر، كما بينت ذلك نظريتنا للرموز الثقافية في هذه الصحيفة وفي غيرها من الصحف والمجلات وفي كتابينا: التخلف الآخر والثقافة. وهذا ما سوف يتضح لاحقا في متن هذا المقال. ومن ثم فليس من المبالغة القول بأن النظام العالمي اليوم يشهد منعرجا حرجا جديدا في مطلع القرن الحادي والعشرين.
ويعود ذلك في نظرنا في المقام الأول إلى المنظومة الثقافية والعقائدية لفريق إدارة بوش. وهذا ما نسعى إلى ابرزاه في المحاور التالية:
أولا: فزع العالم من العم سام :
لا يحتاج المرء الآن إلى التأكيد بأن السياسة الخارجية الأمريكية في ظل إدارة الرئيس جورج بوش الابن أثارت وتثير عالميا الكثير من القلق والفزع والسخط والخوف بخصوص ازدياد عدم الاستقرار في العالم قاطبة أو حتى عودة الاستعمار الغربي من جديد مع مطلع هذا القرن. وتأتي منطقة الشرق الأوسط في طليعة مناطق الكرة الأرضية المتأثرة بشدة رياح عدم الاستقرار والاحتلال، كما يتجلى ذلك في الوضع بين الفلسطينيين والإسرائليين، من ناحية، وفي العراق بعد غزوه وإسقاط نظام حكمه بقيادة الإدارة الأمريكية الحالية، من ناحية أخرى، بحيث يرى العديد من المحللّين أن الحالة الدولية تطرح على أيدي الولايات المتحدة الأمريكية توجها جديدا سيئا ومزعجا في الشرق الأوسط على الخصوص مع بداية الألفية الثالثة. وللمرء أن يتساءل عن أسباب أهداف الاستراتيجية الأمريكية في تركيزها على بث عدم الاستقرار ومناداتها بالتغيير في منطقة الشرق الأوسط قبل غيرها. وليس من الصعب تفسير ذلك إذا عرفنا أن العقول المدبرة في إدارة بوش متأثرة في العمق بمنظومة ثقافية عقائدية مسيحية وصهيونية متطرفة. ويأتى تعيين كونداليزا رايس وزيرة للخارجية الأ مريكية فى الفترة الثانية لحكم بوش ليزيد فى تشا ئم المحللين السياسيين لما سوف يشهده العالم حتى عام 2009.
ثانيا: استحواذ هاجس الهيمنة لدى إدارة بوش:
فانطلاقا من كونها القوة العظمى الوحيدة على الكرة الأرضية مع مطلع القرن الجديد، فلم يخف فريق إدارة بوش (بسبب منظومته الثقافية العقائدية) رغبته وسياساته الطموحة إلى الهيمنة الكاسحة على عالمنا اليوم. يشير الملاحظون أن العقول المدبرة في إدارة بوش من " المحافظين الجدد" وغيرهم كانت في الأساس قبل أحداث 11/9 مسكونة بهاجس الهيمنة الأمريكية على العالم ولو بقوة السلاح. وهذا ما يتجلى في مبادئ ما يسمى بمشروع القرن الأمريكي الجديد الذي يشرف عليه جاري شميت Gary Schmit وجاءت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتعزّز أكثر فرص تحقيق السطوة الأمريكية الفعلية بسبب التعاطف العالمي العارم الذي لقيته إدارة بوش في حربها ضد الارهاب الذي ضربها في عقر دارها في كل من نيويورك وواشنطن. هناك أدلة متعدّدة تفيد بأن العقول المدبرة للسياسة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس بوش الصغير هي عقول تعتقد كثيرا في المثل العسكري المشهور: "الحق في أفواه المدافع might makes it right "، أي أن تفوق الولايات المتحدة الأمريكية عسكريا على سواها في القارات الخمس يجعلها قادرة على إنجاز هيمنتها العسكرية وغير العسكرية. وبعبارة أخرى، فإن شخصيات بارزة في الإدارة الأمريكية انحازت (بتأثير منظومتها الثقافية العقائدية) في تسرّع غير مسؤول إلى منظور خاطئ يزعم أن الهيمنة على الشعوب تأتي في المقام الأول من التغلب عليها عسكريا وتكنولوجيا واقتصاديا.
بهذه الرؤية الضيقة للعقول المدبرة في القيادة السياسة الأمريكية، ضربت الإدارة الأمريكية بقيادة بوش بكثير من التكبّر والاستهتار عرض الحائط بالرأي العالمي ومواقف معظم الحكومات وبمواثيق الأمم المتحدة المعارضة جميعا لشنّ الحرب على العراق. إن التصميم الأعمى لإدارة بوش للهيمنة بقوة السلاح على القطر العراقي أدى بها إلى أشدّ وأقوى صدام عرفته الإدارات الأمريكية مع العالم بأسره، من جهة، وإلى الكذب الفاضح على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل واختلاق الذرائع الباطلة لاحتلاله، من جهة أخرى.
كانت النتيجة الطبيعية لمثل ذلك السلوك الأمريكي المتحدي للرأي العام العالمي ومواثيق الأمم المتحدة بلوغ الكراهية للإدارة الأمريكية أعلى مستوى له عند أغلبية الشعوب. وبعدم العثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق إلى يومنا هذا، أصبح يشار بالبنان عالميا إلى فقدان الثقة في إدارة بوش وحكومة بلير، إذ أنهما خسرا كثيرا المصداقية أمام شعوبهما وأكثر من ذلك لدى الرأي العام العالمي وذلك بسبب كذبتهما الكبرى أمام مواطنيهما وأمام سكان العالم قاطبة. وهي بالتأكيد خسارة كبرى لسمعة أمريكا وحليفتها بريطانيا بين المجموعة الدولية وشعوبها. إنها خسارة تمسّ في الصميم الرصيد الأخلاقي للأمم الذي لا تعوضه المكاسب المادية والاستراتيجية وغيرها. ألم يقل الشاعر العربي:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
أوليس فقدان القوة العظمى لذلك الوازع الأخلاقي الأصيل يجعلها أكثر من غيرها من الأمم الصغيرة الضعيفة في عالم اليوم لتكون بحق محور الشرّ الأكبر أمام مسيرة العالم ومصيره نحو التقدم والاستقرار والتألق في الحاضر والمستقبل؟.
ثالثا: مفهومنا للرموز الثقافية وتشخيص سياسة الإدارة الأمريكية:
أشرنا بإيجاز شديد إلى الأولوية الكبرى التي يجب أن تعطى للمنظومة الثقافية العقائدية في فهم وتفسير سلوكات الناس: حكاما ومحكومين. ويمكن تلخيص هذا الطرح الفكري المفقود عموما في وسائل الإعلام وتحاليلها لظاهرة "المحافظين الجدد" في إدارة بوش في ما يلي : إن كتاباتنا منذ العقد الأخير من القرن العشرين في ما نسميه بالرموز الثقافية/الثقافة (اللغة، الدين، الفكر، المعرفة/العلم، القيم والأعراف الثقافية، القوانين، الأساطير...) زادت في اقتناعنا بمدى أهمية مركزية منظومة الرموز الثقافية ليس فقط في التأثير على سلوكات أفراد وجماعات الجنس البشري وإنما أيضا في التأثير حتى على بيولوجيا الإنسان نفسها. فوجدنا، على سبيل المثال، أن الرموز الثقافية تلعب دورا حاسما في تمتع أفراد الجنس البشري عموما بمدى حياة أطول من معظم بقية أفراد أجناس الكائنات الحية الأخرى. ومن ثم برز عندنا مفهوم التأثير الشمولي للرموز الثقافية في دنيا بني البشر. وبذلك تصبح هناك مشروعية لكي تكون الرموز الثقافية نظرية فكرية تصلح لكسب رهان الفهم والتفسير لسلوكات الناس أفرادا وجماعات وقيادات سياسية وغيرها. ويعني هذا في رؤية نظريتنا أن الجنس البشري هو في المقام الأول جنس ثقافي بالطبع. ومنه فسلوكات الناس لابد أن تتأثر كثيرا بطرق مباشرة وغير مباشرة وفي الكبير والصغير منها بمنظومة الرموز الثقافية.
لا يصعب استعمال نظريتنا للرموز الثقافية لفهم وتفسير مسعى فريق الإدارة الأمريكية اللاهث بقيادة بوش للهيمنة على العالم والهجوم الكاسح على العالم العربي الإسلامي على الخصوص. إذ يرجع المحللّون للسياسة الخارجية الأمريكية المارقة على مواثيق الأمم المتحدة والرأي العام العالمي خاصة أثناء الأزمة العراقية وشن الحرب على العراق وتحطيم مدن عراقية كاملة مثل الفلوجة إلى سيطرة ما يسمى "بالمحافظين الجدد" و"الصقور" على إدارة الرئيس بوش. فلهؤلاء جميعا رؤيتان خاصتان للعالم ولدور الولايات المتحدة فيه. مثلت "المحافظين الجدد" شخصيات أمثال بول وولفويتز وريتشر بارل ولويس لبي (وهم من الحكومة) ووليام كريستول وروبرت كيجن من خارج الحكومة. يرى "المحافظون الجدد" أنفسهم بأنهم أصحاب رؤى (منظومة رموز ثقافية) بعيدة المدى يطمحون بطريقة راديكلية إلى تشكيل العالم على النمط الأمريكي. أما الصقور الذين يمثلهم ديك شيني نائب الرئيس بوش ووزير الدفاع رمسفلد فيدّعون أنهم سياسيون مخضرمون (أصحاب رؤى ايديولوجية/ثقافية) يرغبون في استعمال القوة الأمريكية لبث الرعب في الأمم المنافسة، والقضاء على الأخطار الممكنة ضد أمن أمريكا. علما أن هذين الصنفين من رجال ونساء إدارة بوش متحالفان في احتقارهما (عبر منظومة رموزهما الثقافية) للمنظمات والمؤسسات العالمية وفي دعوتهما إلى الحرب الاستباقية. ويبدو أنهما متفقان أيضا حتى على تجريب استعمال السلاح النووي ضد الأعداء، إذا لزم الأمر.
مما لاشك فيه أن أفكار وعقائد فريق إدارة بوش هي العوامل الحاسمة وراء عدوانية السياسة الخارجية الأمريكية ورغبتها الكاسحة في الهيمنة على العالم. إذ أن مجرد امتلاك الولايات المتحدة لأعظم قوة عسكرية واقتصادية وتكنولوجية في عالم اليوم لا يؤدي تلقائيا إلى هيمنتها القسرية على هذا العالم لو أن العقول المدبرة في البيت البيض كانت أصحاب قيم تحرص على نجدة المستضعفين ومعاداة الظالمين في عالم اليوم والالتزام بإقامة العدل والمساواة بين شعوب العالم وفئاته. إن التعطش الأمريكي للهيمنة الفجة على العالم ما كان ليحدث لو أن صناع القرار في البيت الأبيض حاولوا قيادة العالم، لا الصدام معه، بتبني أخلاق الاحترام بين الشعوب التي تنادي بها مواثيق الأمم المتحدة. وإنما يتم ذلك عندما تكون قناعات واعتقادات ورؤى أصحاب القرار في البيت الأبيض متحمسة للسيطرة على العالم من خلال تصادم منظومتهم الثقافية العقائدية مع نظيرتها عند الأغلبية الساحقة لدول العالم وشعوبها. وهم بذلك يضعون مفهوم "صراع الحضارات" موضع التنفيذ لكن ليس بين الشرق والغرب ولكن بين أمريكا وبقية العالم.
يمثل صدام أمريكا مع العالم العربي والاسلامي حالة خاصة من صدامها الشامل مع المجموعة الدولية. فمنظومة الرموز الثقافية لفريق الإدارة الأمريكية الحالية زاد في تصلب عود عدوانيتها إزاء المنطقة العربية الاسلامية تبنيها لمزيج من الفكر الديني المسيحي العدائي للاسلام ونظيره اليهودي الصهيوني، كما أشرنا من قبل. وهكذا يبدو أن النصاب المثالي من الأفكار والمعتقدات والرؤى قد اكتمل عند العقول المدبرة بالبيت الأبيض لكي يكون العالم العربي الاسلامي هو المرشح الأول على قائمة الهجوم الأمريكي على العالم للهيمنة عليه. وما الهجوم على افغانستان والعراق إلاّ بداية للمشروع الأمريكي في محاولة الهيمنة على الشعوب العربية والاسلامية في المقام الأول. ولعل ما سوف يتعرض له العالم العربي الاسلامي في المستقبل يكون أسوأ مما حدث له حتى الآن.
رابعا: ضرب أخلاقيات السلم العالمي وانتشار الكراهية ضد أمريكا:
وبالتعبير الفلسفي الكلاسيكي اختار أصحاب القرار في البيت الأبيض عن قصد استعمال البعد المادي لا البعد الروحي في التعامل في العلاقات الدولية. فأصبحت أكبر القوة العظمى في عالم اليوم هي التي لا تحترم مواثيق وأخلاقيات ثقافة العلاقات الدولية التي من أجلها أسّست منظمة الأمم المتحدة منذ أكثر من نصف قرن. فأصبحت الولايات المتحدة في النظام العالمي تتصرف في الاتجاه المعاكس. أي عوضا أن تلعب أكبر الدول العظمى دور الريادة والقيادة في تعزيز أخلاقيات وأعراف ومواثيق العلاقات الدولية، بادرت هي بخرقها دون شعور بالذنب أمام الرأي العالمي وأمام مواقف حكومات المجموعة الدولية والأمين العام للأمم المتحدة وذلك بالسماح لنفسها بقيادة شن الحرب على العراق وغزوه واحتلاله. إن مثل ذلك السلوك الأمريكي في ظل فريق إدارة بوش الصغير جعل أمريكا القوة العظمى الكبرى دولة مارقة عن الاجماع الدولي ومواثيق الأمم المتحدة مثلها في ذلك مثل بعض الدول الصغيرة والتي تتصدرها بالتأكيد دولة إسرائيل .
ونظرا لأن الولايات المتحدة هي التي قادت الحملة العسكرية على العراق، وكانت بريطانيا إلى حد كبير تابعة لأوامر أمريكا، فإن انتشار الكراهية العالمية لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية جاء ليسجل أقصى مستوى له في كامل تاريخ تفاعل الولايات المتحدة الأمريكية مع بقية دول وشعوب العالم خاصة في العالمين العربي والاسلامي، الأمر الذي دعا الإدارة الأمريكية لدراسة درجة السخط والغضب عند العرب والمسلمين إزاء الولايات المتحدة الأمريكية. نشر أخيرا تقرير بهذا الشأن معطيا صورة قاتمة عن الأمريكيين عند أغلبية أفراد المجتمعات العربية والاسلامية. وأفاد هذا التقرير بكل جلاء أن السخط والكراهية الحادة إزاء الولايات المتحدة الأمريكية في العالمين العربي والاسلامي يعودان في المقام الأول إلى المساندة الأمريكية المطلقة لإسرائيل وإلى العداء الأمريكي السافر والخفي منذ عقود لعامة المسلمين والعرب. وليس من الصعب تفسير أوجه الكراهية والبغض السائد اليوم عند المسلمين والعرب ضد أمريكا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار اقتران بوش بشارون وأولمرت في استعمالهم في نفس الوقت تفوقهما العسكري ضد الشعوب العربية. فالشعب الفلسطيني يرزح تحت الاحتلال والتدمير الشاملين من طرف القوات الإسرائيلية منذ الانتفاضة الثانية على الخصوص. وهاهو العراق يقع تحت الاحتلال الأمريكي البريطاني منذ 9 أفريل2003. فالمخيال العربي الاسلامي لابد أن يزداد غضبا وكراهية للأمريكيين في هذه الظروف التي تصبح فيها الولايات المتحدة الأمريكية ليست مساندة فقط للعدو الأول للعرب والمسلمين ألا وهي إسرائيل، بل هي تحتل بقوة السلاح العراق مثلها مثل إسرائيل في احتلالها للأراضي الفلسطينية في غزة والضفة.
خامسا: مأزق استعمال القوة العسكرية:
إن سياسة استعمال كل من إدارة بوش وحكومتي شارون وأولمرت قبل وفاة عرفات وبعدها لمبدإ "الحق في أفواه المدافع" باءت وسوف تبوء بالفشل الذريع على كل من الإسرائليين والأمريكيين. فمقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال والعنف الإسرائيلي منذ الانتفاضة الثانية زادت، من جهة، من سوء مأزق الأمن داخل حدود الدولة العبرية من مساندة الرأي العالمي لكفاح الفلسطينيين وعزلة إسرائيل، من جهة أخرى. والأمر مماثل إلى حد كبير بالنسبة لموقف أغلبية الحكومات وشعوبها من الامبريالية الأمريكية الجديدة الساعية إلى الهيمنة على العالم بقوة السلاح والضرب عرض الحائط بمواثيق الأمم المتحدة وأعرافها، الأمر الذي أدى إلى سخط وكراهية كبيرين غير مسبوقين ضد أمريكا عبر القارات الخمس.
أما المقاومة العراقية، فقد نجحت في وضع قوات الاحتلال الأمريكية في ورطة كلفت الجنود الأمريكيين أكثر من 4000 قتيلا إلى حد الآن ناهيك عن عدد الجرحى وعدد العسكريين الأمريكيين المصابين بالأمراض النفسية نتيجة لما تتعرض لها قوات الاحتلال الأمريكية من فقدان أمنها وسلامتها في العديد من القرى والمدن العراقية السنية على الخصوص.
إن الدرس المستفاد من الحالتين الإسرائلية والأمريكية يشير بوضوح إلى أن الاعتماد على قوة السلاح ليس هو البديل الواعد في حلّ النزاع بين الفلسطينيين والإسرائليين، من جهة، والعراقيين والأمريكيين، من جهة ثانية. يتمثل إذن البديل الأكثر مشروعية في حل هذين النزاعين وغيرهما من النزاعات بين الأطراف المتخاصمة في عالمنا اليوم في إعطاء الأولية إلى تبني الحوار المستند بقوة على مبدإ الاحترام المتبادل بينهما. وهذا ما تنادي به بصوت عال، ليس فقط أخلاقيات ومواثيق الأمم المتحدة الناطقة اليوم باسم حكومات المجتمع الدولي بأسره، ولكن كل ديانات وشرائع وفلسفات التراث الإنساني الذي حفل بها التاريخ البشري الطويل. فيجب أن يقف الجميع اليوم بعزم وحسم ضد كل من يعمل على جرّ المجموعة الدولية إلى الوقوع في الانتكاسة الكبرى التي يساس فيها مصير العالم بقوة سلاح الدولة العظمى لا بقوة ثقافة أخلاق العلاقات الدولية التي أسسّتها منظمة الأمم المتحدة وباركتها الأسرة الدولية في العصر الحديث. أوليس إذن لهذه الأسرة الدولية الحق وكامل المشروعية في عقاب القوة العظمى الأمريكية وذلك بطردها، مثلا، من عضوية الأمم المتحدة ومجلس الأمن مثل ما تفعل ذلك مع بعض الدول الأخرى المارقة غيرإسرائيل؟

(*) عالم الاجتماع www.romuz.com
البريد الالكتروني mthawad @ yahoo.ca


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.