نواصل في هذا العدد نشر الحلقة الثانية من الحلقات الخمس التي أعدّها الأستاذ الباحث صالح مصباح حول السياسة الأمريكية في العراق. وقد نشرت الحلقة الأولى يوم الأحد 20 ماي تحت عنوان: «الخطأ القاتل: المراهنة على غياب المقاومة بعد حلّ الجيش العراقي». وفيما يلي نصّ الحلقة الثانية. ت - إدارة بوش الابن: المال والسياسة والعقيدة إذا كانت أمريكا من جهة الوصلة بين المال والسياسة هي الوجه الفج المغالي من أوروبا، فإن إدارة بوش الابن هي في ذلك غلو الغلو الذي ضخّمت فداحتَه نزعة عقائدية لديها، سميت نزعة «المحافظين الجدد». ولعل هذه النزعة التي ترتد إلى الرئيس " ريغان" هي مزيج غريب من الفعل السياسي والنفوذ المالي والهوس العقائدي. فهؤلاء "المحافظون"، هم سياسيا، جماعة أحكمت بالتدريج قبضتها على الحزب الجمهوري مطية إلى سلطة القرار السياسي. وماليا، هم جماعة من عتاة تماسيح المال والأعمال، يمتلكون شركات كبرى يغلب على أغلبها التوسع الكوني والمضمار النفطي الذي لم ينقطع منذ عقود استقراره في العالم محورا لحسابات السياسة والحرب والسلم. وعقائديا، هم جماعة تمثل نحلة عقائدية مغالية، يمتزج في نسيجها الذهني والسياسي سلطة المال والأعمال ونزوع إلى الهيمنة - باسم المال والأعمال- على العالم، ومفردات مسيحية يهودية كأنها عودٌ بالمسيحية إلى تلك اللحظة التي كانت فيها إبان ظهورها فرقة في الديانة اليهودية. ويكّمل كل ذلك افتتان باستخدام القوة وبمزاج القسوة والهيمنة. إبان انتخاب بوش الابن لولايته الرئاسية الأولى، نشر حسنين هيكل مقالا مطولا شهيرا عرض فيه بالتوثيق الأمين والتحليل المحكم لقصة ترشيح هذه المجموعة لهذا الرئيس. ومما ذكر أن هوس المجموعة بالمال والعقيدة و" السلطة " دفعها إلى المسك بزمام الأمور في الحزب الجمهوري. وليتسنى لأعضائها إحكام القبضة على قوة "الدولة" الأمريكية العسكرية والدستورية والسياسية، كان لابد لهم من هيمنة على البرلمان وعلى الرئاسة. وبقدر ما كان أمر مجلسي النواب والشيوخ متاحا وقتئذ بحكم طابعهما الجماعي، فإن الهيمنة عليهما بالأغلبية التي تحققت وترأس ديك تشيني مجلس الشيوخ، لا بد أن تصاحبها هيمنة على الرئاسة. ويذكر هيكل أن أعضاء المجموعة تدارسوا أسماء منهم عديدة نحو تشيني ورامسفيلد وغيرهما. واستقر الرأي على بوش الابن للأسباب الثلاثة التالية: أولا لأنه ضحل الرصيد السياسي، لاسيما في مجال السياسة الخارجية التي هي ساحتهم الأثيرة، ويسهل إدماجه في نحلتهم المالية السياسية العقائدية ويسهل تطويع سلطاته التنفيذية لفائدة نهجهم.ثانيا لأنه ابن رئيس سابق، وهذا يسّهل عليهم إنفاقه انتخابيا. ثالثا لأنه عائليا يشاركهم في الانتساب إلى دوائر الثراء النفطي. 1- احتلال العراق سبق الاحتلال الأمريكي للعراق عاملان هامان، أحداث 11 سبتمبر2001 واحتلال أفغانستان. وإذا كان العامل الثاني حلقة احتلالية انتقلت إلى العراق، فإن العامل الأول قد مثّل لسلطة إدارة "بوش" مركز التبرير الأمني والعسكري والإستراتيجي والثقافي لانتهاج سياسة مشطة، قائمة على غلو عقائدي وعسكري واحتلالي واستخباري خارجيا وداخليا. - أما خارجيا، فقد استثمرت الإدارة ذلك الحدث لتعلن حربا "على الإرهاب" بالاحتلال ولتستجمع دعما شعبيا ورسميا لفكرة "الحرب الاستباقية "، ولعقيدة أن أمن أمريكا يكمن في ضرب "أوكار الإرهاب" في الخارج لاسيما في أفغانستان معقل ضاربي "البرجين" يوم 11 سبتمبر، وفي العراق التي روّجت عنه الإدارة تلك امتلاك أسلحة دمار شامل يمكن أن تكون في متناول " الإرهاب" المهدد للداخل الأمريكي. - وأما داخليا، فقد وجدت الإدارة في الحدث ما به تجيز لأجهزتها التنفيذية أن تتعدى على حقوق المواطنة بالتنصت على مكالمات الأمريكيين بدون أذون قضائية، وأن تمارس إجراءات تحر اخترقت بها الحقوق الدستورية، وحفّزت، تجاه الأمريكيين المسلمين، نظرة اشتباه وعنصرية . أ - الغلو المالي ساندت أمريكا، سلطة ودولة ومجتمعا، إدارة بوش في احتلال العراق مساندة نهضت وقتئذ على ما روّجت تلك الإدارة من أسباب وأهداف، وعلى ما أشاعت من تخويف بلغ أحيانا بين عامة الأمريكيين مراتب الإرهاب النفسي. ومن دون إبطاء، ذهبت هباء تلك الأسباب وتلك الأهداف، وأدرك أغلب الشعب الأمريكي أن رئيسه وطاقمه قد ابتزاه سياسيا وإعلاميا ونفسيا، وغالطاه مغالطة رسمية لا سابق لها من جهة مراتبها السيادية التي تتعلق برؤوس الإدارة، ومن جهة مغزاها الأخلاقي الذي أظهر تلك الإدارة في صورة المجموعة التي لا موانع لديها في تسخير قوة " الدولة" الأمريكية لفائدة أهداف مالية ضيقة تخفّى في سبيلها أصحابُها بقيادة " السلطة" وتزكّوا بادعاء محاربة "الإرهاب". وقد تأكد العموم الأمريكي أن الحرب على العراق هي حرب مصالح الشركات الكبرى المتصلة بساسة الإدارة الأمريكية وليست حتى حرب مدافعة عن المصالح القومية الأمريكية. ذلك أن المصالح النفطية وحدها، كان يمكن - من منظور أمريكي - تأمينها من دون تلك الحرب التي تستعصي عن الوصف بشاعتُها وتبعاتها. إنما المصالح النفطية، وعقود "إعادة إعمار العراق " وعقود تموين الجيش الأمريكي، ومشترياته العسكرية، والهيمنة على السوق العراقية وعلى ثرواته المعدنية كلها أهداف مالية تجري مغانمها للشركات الكبرى ولا مصلحة فيها لأمريكا من حيث هي " مجتمع " و" شعب" و"مصالح قومية"عامة. وإن آلية كل ذلك هي شركات قد استخدمت صلاحيات " السلطة" الأمريكية للانقلاب على " فكرة" "الدولة" التي تختزل دستوريا وثقافيا، المصالح القومية وبنودها وعقودها وأهدافها القريبة والبعيدة.ولئن كنا قد مهدنا لهذا بظاهرة دكتاتورية الشركات الكبرى في أمريكا، فإنما لكي نحصّل هاهنا الوجه السياسي السلطوي منه، ذاك الذي صارت بعض الصحافة الأمريكية تسميه "الديكتاتورية الرئاسية". وليس لهذه الدكتاتورية القائمة على الغلو المالي الأعمى من معنى في الأدبيات السياسية إلا معنى أن تذوب " الدولة في "السلطة". وإن هذا الذّوب قد اعتادت الأقلام على أن تسم به دولة صغيرة في أعماق إفريقيا أو في" الشرق المعقد" بعبارة "ديغول" أو نحو ذلك من الدول الحابية في السلم الديمقراطي، ولم تتعود على أن تسم به أمريكا، رأس الديمقراطيات الغربية قوة وإشعاعا كونيا ووصاية عالمية على الديمقراطية. ب - الغلو العقائدي من العناوين العقائدية التي غطّت بها الإدارة الأمريكية احتلال العراق نشر الديمقراطية فيه وفي الشرق. وإذا احتكمنا إلى هذا الغطاء، فكأن إدارة "المحافظين الجدد" أرادت أن تغيّر الشرق، لكن الشرق غيّرها، فأضحت إدارة استبدادية يتعاظم بها ذرعا ضيق مواطنيها وشركائها الدستوريين تعاظما. على أن محمول الجماعة العقائدي أعمق من الغطاء ذاك.إنه عقيدة التبشير بأمركة العالم أمركة مال وقيم وعقيدة بواسطة الحديد والنار. فلعل الأمر ذهنية قد تكثفت لديها "أصولية المال" المزكوّة بأصولية عقائدية، فإذا هي مزيج غريب من الهوس العقائدي السياسي والهوس العقائدي الديني الذي يدرك مراتب أن يدعيَ بوش الابن بصريح تعبيره تلقّيَه لأمر إلهي يدعوه إلى احتلال العراق تلقيا يشبه لدينا "كرامات" "الشطح" الصوفي بعبارة - عابد الجابري - أو أصوله" الغنوصية" الراجحة . و الأصل في أمريكا أن معاضدة سطوة المال لأفكار أنها أمة تّقّدّر لها إلهيا أن تقود العالم وأن تسوده وأن تطبعه بلونها، ليست بالغطاء العقائدي الجديد. فقد سبق أن وقف على "أحوال " من ذلك قديمة صريحة مفكرُ أمريكا الأول "نعوم تشو مسكي". على أن الذي يميز هذه المجموعة التي استفادت من تشريعات "الدولة" فهيمنت على الحزب الجمهوري إلى أن وضعت أيديها على "السلطة" إنما مفاده أنها قد أدركت من ذلك الهوس المالي والعقائدي نُهية شططه، فصارت "طالبان" أمريكية ثرية تتصرف في قدرات القوة الأولى في العالم، فتغالى شططها وتطرفها ،فصارت عقائديا " ذات وعي زائف "بعبارة" ماركس "الواصفة للايديولوجيا من بعض الوجوه. فلولا هذا الغلو العقائدي الزائف، المسنود بنفوذ الشركات الكبرى، وبمقدرات "الدولة" والشعب الأمريكيين، لما أصرت هذه المجموعة على معاندة الكون لأمركة العراق، هذا البلد العريق الذي ما زالت فيه مع ذلك الانتماءات إلى ما قبل فكرة "الدولة"، نحو الانتماءات المذهبية والعرقية والعشائرية، تعايش قيم المواطنة إن لم نقل تتقدم عليها. فأي ديمقراطية أمريكية في العراق هذه التي تحركها انتخابيا المذهبية والقبلية، وتؤازرها "مدنيا" المليشيات المسلحة؟ وأين هذه "الديمقراطية" الأمريكية في العراق، هذه التي تنصاغ بياناتها الانتخابية على وقع رقصات الندبة على ذبح "السيد الحسين" من "دكتاتورية" البعث العلمانية المتعالية على ضروب هذا التلوث الذهني؟ وأي هدف في العراق هذا الذي قضت هذه الإدارة المالية العقائدية أن تبذل فيه أمريكا خيالي الخسائر المالية والبشرية والإستراتيجية والسياسية؟؟ وأي أفق لعملية الاحتلال غير الخسران المبين للعراق أولا ولأمريكا ثانيا، فضلا على انتشار روح الكراهية التي صارت بها الإنسانية كلها الخاسر الثالث؟!