أثار الحكم الصادر عن الدائرة الاستئنافية بالمحكمة الابتدائية بتونس والقاضي بإلزام امرأة مطلقة بالإنفاق على ابنيها القاصرين اللذين في حضانة والدهما الكثير من الجدل صلب الأوساط القضائية والاجتماعية. واعتبرت المحكمة في حكمها أن الفصل 23 من مجلة الأحوال الشخصية يحتّم على المرأة أن تساهم في القيام بنفقة العائلة في حال توفر لها المال استنادا على الفقه الإسلامي والدستور التونسي وكذلك الظرفية التاريخية لتنقيح مجلة الأحوال الشخصية لسنة 1993 وأيضا فقه القضاء التونسي. وقررت المحكمة نقض الحكم الابتدائي(عدم الزام الأم بالإنفاق) والقضاء مجددا بإلزام الأم بالإنفاق على ابنيها القاصرين اللذين في حضانة الأب. «الصباح» تناولت الموضوع بالدرس واتصلت بمختصين في الشأن القانوني والقضائي لمعرفة تداعيات هذا الحكم. في البداية نعود لوقائع القضية المرفوعة والتي تفيد بأن الشاكي تقدم بها مطالبا بإلزام زوجته المشتكى بها بالإنفاق على ابنيها بمبلغ قدره 200 دينار سوية بينهما إلا أنه صدر حكم ابتدائي يقضي بعدم الزامها بالإنفاق على ابنيها. ولكن الزوج استأنف هذا الحكم مشيرا إلى أن الزوجة تعمل ولها دخل قار ولا تساهم في رعاية الابنين المحضونين من قبله كما انه لم يقع الخوض في اجتهادات التشريع الإسلامي ولم يجار التطورات الجديدة للقانون والتشريع مطالبا في الأخير بنقض الحكم الابتدائي وإلزام الزوجة بالإنفاق على الابنين القاصرين بالمعين الشهري المذكور آنفا مدليا بجميع الوثائق اللازمة. من جانبها أوضحت المشتكى بها أن قضية في الطلاق منشورة بالمحكمة وفي هذه الجلسة لم يصدر حكم الطلاق بعد وهما مفترقان ما ينتفي معه مفهوم الأسرة وبالتالي لا يمكن مطالبة الأم بالمساهمة في الإنفاق على معنى الفصل 23 من مجلة الأحوال الشخصية مستندة في هذا التأويل على الفصل 47 الذي يقدم الأم في حال عسر الأب وطالبت على هذا الأساس الحكم برفض مطلب الاستئناف وتغريم الزوج المستأنف لفائدتها بألف دينار مدلية بسند لقرض خاص. وقد أذنت المحكمة للغرض بتاريخ الثاني من جانفي 2017 بالتحرير مكتبيا على طرفي النزاع (الزوجين) يوم 24 من نفس الشهر وقد حضر الزوج وأكد بأن الزوجة غادرت محل الزوجية منذ أوت 2014 وان الطفلين منذ ذلك التاريخ في رعايته وأن أجره الشهري يبلغ 890 دينارا ويبقى له بعد الاقتطاع 500 دينار وان الطفلين يدرسان بمدرسة حكومية ويترددان على حضانة مدرسية قيمتها شهريا 100 دينار لكل منهما ويزاولان دروسا خصوصية وهو لا يقوى على مجابهة مصاريفهما. وحضرت الزوجة المستأنف ضدها وأكدت أن الابنين في حضانة والدهما منذ أوت 2014 وأنها تتقاضى 580 دينارا شهريا يقتطع منها إلى حدود 2021 مبلغ 230 دينارا مؤكدة وأنها تنفق على ابنيها أوقات الزيارة فقط وذلك بسبب قلّة ذات اليد. حكم طلاق.. وفي جلسة عقدت بتاريخ 8 ماي الفارط أكد محامي الزوج على أن الزوجة دخلها الشهري يبلغ 990 دينارا وهي متخلية عن أبنيها نفقة وزيارة وأن حكم طلاق صدر بين الطرفين قضى بإسناد منوّبه حضانة الابنين، أما محامي المشتكى بها فقد شدد على ان الزوجة تعاني من قلة ذات اليد مقابل سعة دخل الزوج ما يفيد تعمده التنكيل بها. تنقيح.. وإلزام يشار إلى أنه جاء في الحكم الصادر عن المحكمة والذي تحصلت «الصباح» على نسخة منه بأنه تم تعليل الحكم بان الفصل 23 من مجلة الأحوال الشخصية تضمن صياغة جديدة منذ التنقيح المجرى بموجب القانون عدد 74 لسنة 1993 المؤرخ في 12 جويلية 1993 حيث ينص «.. وعلى الزوجة أن تساهم في الإنفاق على الأسرة إن كان لها مال».. وفي قراءة لهذا التنقيح يتضح بان هناك إلزاما استنادا على عبارة «على» التي تفيد الإلزام حتما أي انه في حال توفر مال لدى الزوجة فإنها تصبح ملزمة بالمساهمة في الإنفاق على الأسرة. كما جاء في ذات الحكم أنه بالرجوع لقضية الحال يتضح من خلال شهادة الخلاص المضافة بالملف ومن خلال تصريحات الأم ذاتها التي تعمل بوزارة الفلاحة وان لها أجرا ثابتا وقارا شهريا ما يفيد حتما بأنها مطالبة بالمساهمة في الإنفاق على الأسرة دون الحاجة للبحث حول إعسار الأب أو وفاته. كما أنه بمراجعة مؤيدات الملف ثبت وان الأب له عمل قار ويتقاضى 900 دينار شهريا يقتطع منها قرض قيمته 300 دينار وبالتالي فهو غير قادر على القيام بشؤون الطفلين وما على الأم إلا أن تساهم في هذا الإنفاق خاصة وان الطفلين يدرسان ما يتطلب مصاريف متزايدة وهامة، وبالرجوع إلى شهادة الأجر للزوجة فإنها تتقاضى شهريا 950 دينارا وبعد خلاص معين قرض يصبح دخلها الشهري حوالي 700 دينار فضلا عن أنها لم تدل بما يفيد أن لها أعباء مادية أخرى وبالتالي تم الحكم بإلزامها بالإنفاق على ابنيها بحساب 150 دينارا شهريا سوية بينهما. مختصون في القانون.. وسعيا لمعرفة تداعيات الحكم من الناحية القانونية اتصلت «الصباح» بالأستاذ فيصل النقاطي فأوضح أنها سابقة أولى في تاريخ القضاء التونسي بإصدار حكم استئنافي عن المحكمة الابتدائية بتونس يقضي بإلزام زوجة بالمساهمة في الإنفاق عن أبنائها بعد قيام الزوج بقضية في الغرض. واعتبر أن التطور القانوني والتنقيح الذي شهده الفصل 23 من مجلة الأحوال الشخصية خلال سنة 1993 ليصبح في الصيغة المنقحة ينصّ «على المرأة أن تساهم في الإنفاق على الأسرة « ذاكرا بأن كلمة «على» تفيد الوجوب والإلزام واشترط للغرض أن يكون لها مال وفق ما نص عليه الفصل. واعتبر التنقيح الصادر يحمل في طياته نظرة حضارية وتقدمية للعلاقات الزوجية وللتطور التشريعي ببلادنا، فضلا على أنه وفق مقتضيات الدستور الذي ينصّ على المساواة في الحقوق بين كافة المواطنين وتكريسا للتنقيح الحاصل في 1993 ما جعل المشرّع يلزم المرأة بالمساهمة في الإنفاق على الأسرة وهو ما ارتكزت عليه المحكمة عند إصدارها للحكم. وأشار في ذات السياق إلى أنه على مستوى التطبيقات القضائية لم يقع تقديم قضايا في هذا الخصوص لتطبيق النص وإلزام الزوجة قضائيا بالإنفاق على الأسرة، إلا أنه في الفترة الأخيرة هناك من سعى إلى تقديم القضية (وهي قضية الحال) عكس ما هو متعارف عليه من أن قضايا النفقة جرت العادة أن تتقدم بها للمرأة، إلا أنه بتطور التشريع وتطور العقليات طرح هذا الإشكال القانوني وبالتالي لا مانع من التقاضي بناء عليه وتفعيل النص بنشر قضية بغية إلزام الزوجة بالإنفاق. وأفاد الاستاذ النقاطي أن المحكمة عندما أصدرت حكمها عللته بحيثيات دقيقة بالرجوع إلى الدستور الذي كرس مبدأ المساواة كما أنه بالرجوع الى الفصل القانوني فانه يحمل في طياته صيغة الوجوب، وأضاف بعض الأسانيد الأخرى حتى في التشريع الإسلامي إذ أن فرقة المعتزلة تأخذ منحى من أن المرأة ملزمة بالإنفاق على الأسرة فيما الأغلبية الساحقة يذهبون بالقول إلى أن الرجال قوامون على النساء لكن الزوجة إن أرادت الإنفاق فذلك يكون اختيارا منها وليس وجوبا، فيما «لطفت» مذاهب أخرى من التفرقة الحاصلة وأشارت إلى أنه في حالة عسر الأب فعلى الأم الإنفاق على الأسرة. وختم النقاطي بأن الحكم الصادر له أهمية على اعتبار وأنه سابقة قضائية أولى في إلزام الزوجة بالإنفاق إلا أنه سيطرح إشكالا آخر جزائي يتمثل في «جريمة عدم الإنفاق» ويحيل إلى التساؤل عما إذا كانت الزوجة في صورة عدم امتثالها للحكم الصادر فهل ستعاقب جزائيا؟ وهل للزوج الحق في التشكي جزائيا من أجل عدم دفع النفقة وبالتالي المرور للطور الجزائي من خلال تقديم شكاية للنيابة العمومية استنادا للفصل53 مكرر من مجلة الأحوال الشخصية الذي ينص على أن «كل من حكم عليه بالنفقة أو بجراية الطلاق فقضى عمدا شهرا دون دفع ما حكم عليه لأدائه يعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين 3 أشهر وسنة وخطية مالية من مائة إلى ألف دينار «.. مضيفا بما أن صيغة النص وردت مطلقة فانه لا وجود لتمييز بين رجل وامرأة ما يفيد أن إمكانية تتبع الزوجة قائمة من اجل «إهمال عيال». أما القاضي زياد غومة فقد بين أن الحكم الصادر عن الدائرة المذكورة يعد اجتهادا قضائيا ممتازا تم من خلاله مراعاة مصلحة المحضون خاصة في ظل عدم توفر الإمكانيات اللازمة لمجابهة مصاريفهما من قبل الأب وبالتالي فان هذا الحكم راعى مصلحة الطفل ومن ينفق عليه. وأضاف القاضي زياد غومة بأنه من خلال الحكم الصادر نلمس تطورا في اجتهاد الفقه القضائي واجتهاد المحاكم والقضاء التونسي بشكل عام. وعن إمكانية تتبع الزوجة في صورة عدم امتثالها للحكم الصادر من المحكمة أوضح زياد غومة أنه يمكن تتبعها قضائيا شأنها شأن الزوج الذي لا يمتثل لحكم صادر بالنفقة خاصة وأن مثل هذه القضايا تكسوها صبغة معاشية.