نعيش اليوم مفارقة في أنّنا نُصفّق من جهة لعلوّ شأن الديمقراطية في تونس بعد مسيرة حافلة بالانتقال الديمقراطي وصياغة دستور الجمهورية الثانية بما حمله من معاني وقيم أساسية لإرساء برلمان ديمقراطي. ونتخذ من جهة أخرى موقف الملاحظين والمترددين أمام التكريس الفعلي لاستقلالية مجلس نواب الشعب كمؤسسة مركزية للديمقراطية يتمّ من خلالها التعبير عن إرادة الشعب والتشريع ومساءلة الحكومة وممارسة الوظيفة الديبلوماسية التي ما انفكّت تتطوّرٌ في معاضدتها للديبلوماسية الحكومية. ولا مناص اليوم من الاعتراف بأن طبيعة العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية تُعتبر من أهم التحديات التي تُواجهها المؤسسة التشريعية في تونس. وهو ما يفسحُ المجال لسؤال قديم جديد ليطفُو من جديد على السطح: أمَا آن الوقت لتوضيح العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية؟ ارتأينا خوض هذا الموضوع من زاوية إرساء منظومة تشريعية متكاملة للوظيفة العمومية البرلمانية التي ستعكس حتما احد مظاهر استقلالية السلطة التشريعية وهي ضرورة نرى أنه لا مناص من التطرق إليها على الأقل في جزأين سنتناولها تباعا: المبررات الدستورية والقانونية (جزء أول) والمبررات الموضوعية والواقعية (جزء ثان). I.المبررات الدستورية والقانونية: لا مجال لتحقيق مبادئ الديمقراطية في الدول الحديثة إلا من خلال مجموعة متداخلة من المؤسسات والسلوكيات المؤسساتية والتشريعات لا سيما في ما يتعلّق بالسلطتين التشريعية والتنفيذية باعتبار أنه في إطار الفصل التقليدي للسلطات ما بين تشريعية وتنفيذية وقضائية يتبوّأ البرلمان المكانة الرئيسية في أي دولة ديمقراطية . 1) تكريس دستوري لمبدأ الفصل بين السلط: ورد في توطئة الدستور عبارة «... وتأسيسا لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، في إطار دولة مدنية السيادة فيها للشعب عبر التداول السلمي على الحكم بواسطة الانتخابات الحرة وعلى مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها». 2) تنصيص دستوري على الاستقلالية الإدارية والمالية لمجلس نواب الشعب: نص الفصل 52 من الدستور على ما يلي» يتمتع مجلس نواب الشعب بالاستقلالية الإدارية والمالية في إطار ميزانية الدولة». يكتسي إذن التكريس الدستوري لاستقلالية السلطة التشريعية أهمية قانونية من حيث تبني مبدأ قانوني عام هو الفصل بين السلطات وما يترتب عنه من استقلالها عن بعضها البعض وكذلك أهمية موضوعية تتجسد من خلال السعي إلى الارتقاء بالمؤسسة البرلمانية إلى المكانة التي خصها بها الدستور لاسيما مع الوظائف الدستورية التي أصبحت تضطلع بها في إطار النظام السياسي الجديد القائم على معادلة الفصل بين السلط مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة التفاعل بينها في إطار يتحقق معه التوازن بينها خاصة مع تطور وتنوع الأدوار الموكولة للبرلمان من تشريعية ورقابية وديبلوماسية. 3) النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب: نص في فصله 3 على إحداث نظام أساسي عام للوظيفة العمومية البرلمانية كما يلي: «يسنّ مجلس نواب الشعب قانونا يتعلق بالنظام الأساسي العام للوظيفة العمومية البرلمانية وفقا لخصوصيات المرفق العمومي البرلماني ولمتطلبات العمل الإداري بالمجلس...» 4) وجوب سنّ نظام أساسي عام للوظيفة العمومية البرلمانية: يُضبط النظام الأساسي العام بقانون وبالتالي له قيمة قانونية أعلى من النظام الأساسي الخاص الذي يضبط بأمر. ومن هذا المنطلق فإنّ الاستقلالية الإدارية والمالية لمجلس نواب الشعب لا جدوى لها دون سن نظام أساسي عام للوظيفة العمومية البرلمانية باعتباره ضرورة ديمقراطية تدعم سلطات المؤسسة البرلمانية وتمنح الضمانات الأساسية للموظفين البرلمانيين بما من شأنه أن يضفي النجاعة المطلوبة على أدائهم لمهامهم. وقد أثبتت التجربة عدم جدوى النظام الأساسي الخاص الذي كان يتمتع به مجلس النواب سابقا، والأمر عدد 934 لسنة 1989 المؤرخ في 7 جويلية 1989 المتعلق بتنظيم المصالح الإدارية لمجلس النواب مثلما تم تنقيحه وإتمامه بالأمر ع467دد لسنة 1993 المؤرخ في 18 فيفري 1993 وهو ما يستدعي تناول المسألة بشكل يأخذ بعين الاعتبار أن مجلس نواب الشعب هو مؤسسة مركزية للديمقراطية وأن الإدارة البرلمانية تتميّز بخصوصيات لاسيما على مستوى المهام الموكولة لها والمبادئ التي تحكم قيامها بوظائفها وذلك تماشيا مع ما يفرضه منطق التطور والمضي قدما لتحقيق نتائج أفضل في أداء المؤسسة البرلمانية. وللتذكير، فإنّ العديد من قطاعات الوظيفة العمومية يتمتع أعوانها بأنظمة أساسية عامة حسب الفصل الأوّل من القانون ع83-112دد المؤرخ في 12 ديسمبر 1983 المتعلق بضبط النظام الأساسي العام لأعوان الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية ذات الصبغة الإدارية: * ثلاثة أنظمة أساسية عامة للقضاة (القضاة من الصنف العدلي والقضاة الإداريين والقضاة بدائرة المحاسبات). * النظام الأساسي العام لأعوان المؤسسات والمنشآت العمومية. * النظام الأساسي العام لقوات الأمن الداخلي. * النظام الأساسي العام للعسكريين. * النظام الأساسي العام لأسلاك أعوان الديوانة. II.المبررات الموضوعية والواقعية: 1) خصوصية العمل البرلماني: تتجسد هذه الخصوصية من خلال نوعية المهام الموكولة للمجلس وعلاقاته ببقية السلط وانفتاحه على مكونات المجتمع المدني بما يستوجب تمكين المجلس من جميع الصلاحيات والوسائل لأداء مهامه بكل شفافية ونجاعة خاصة في ما يتعلق بإعداد ميزانيته والمصادقة عليها وتنفيذها ومراقبتها وإبرام الصفقات العمومية والتصرف في الأرشيف...، إضافة إلى الواجبات المحمولة على الموظفين البرلمانيين على غرار واجب الحياد تجاه مختلف الأحزاب بالبرلمان والجاهزية المطلقة (العمل خلال الجلسات العامة إلى ساعات متأخرة من الليل وخلال أيام الراحة الأسبوعية والمناسبات والأعياد...). 2) مواصلة خضوع أعوان المجلس للتراتيب والمناشير الصادرة عن السلطة التنفيذية: هذا الخضوع كرّس تبعية تكاد تكون مطلقة للسلطة التنفيذية فيما يتعلق بالمسار المهني للأعوان البرلمانيين مما خلق نوعا من اللامساواة بينهم وبقية نظرائهم بالوزارات خاصة وأن المجلس يفتقد إلى تكييف قانوني واضح من حيث معاملته كوزارة أو كإدارة جهوية.... إضافة إلى الإشكاليات التي تُطرح كلّما تعلّق الأمر بإسناد الخطط الوظيفية والترقيات للأعوان البرلمانيين وطول الإجراءات وتعقدها... 3) التجارب البرلمانية المقارنة: أقرت أغلب الأنظمة البرلمانية المقارنة مبدأ الفصل بين السلط مكرسة بذلك استقلالية السلطة التشريعية عن بقية السلط وبالخصوص السلطة التنفيذية حيث تفسر هذه الاستقلالية وإن كانت بدرجات مختلفة حسب الدول، الخصوصية المشتركة «للظاهرة البرلمانية» في العالم وهو أمر بديهي إذا عرّفنا الاستقلالية من منطلق كونها «استقلال أو عدم تبعية المجالس النيابية للسلطة التنفيذية من ناحية والتحرر ولو جزئيا من قواعد القانون العام للخضوع إلى قواعد خاصة بها من ناحية أخرى». ويمثّل مبدأ الاستقلالية الإدارية والمالية للمجالس النيابية نتيجة طبيعية - c'est le corollaire - لمبدأ الفصل بين السلط كما أنه نتاج لتقاليد برلمانية عريقة تتعلق بسيادة المؤسسات البرلمانية. وتجدر في هذا الإطار الإشارة إلى: التوصيات الصادرة عن الإتحاد البرلماني الدولي بخصوص استقلالية المجالس البرلمانية، حيث أنّه بادر بإعداد نشرية تحت عنوان «البرلمان والديمقراطية في القرن الحادي والعشرين «تشمل دراسة مقارنة للعديد من التجارب البرلمانية في هذا المجال وقد ورد في مداخلة البرلمان السلوفاكي مثلا، ما يلي: «يرتبط مبدأ استقلال البرلمان في الواقع العملي بعدد من الجوانب المختلفة تتمثل أساسا في مسؤولية البرلمان على طاقم العمل به وتحكمه في ميزانيته وتحكمّه في عمله». كما ورد في التقرير الذي قدمته كندا وفي الجزء المتعلق بأهمية استقلال العاملين في البرلمان عن السلطة التنفيذية ما يلي: «تعدّ فعالية البرلمان دون شك انعكاسا للآليات والموارد التي تضمن استقلاله».. -التوصيات الصادرة على المستوى العالمي بخصوص الوظيفة العمومية البرلمانية (توصيات المجلس البرلماني للفرنكفونية عدد 66 الذي انعقد في لكسمبورغ من 8 إلى 10 جويلية 1997 واللائحة عدد 65 الصادرة عن الاجتماع المذكور في نفس التاريخ. هذا، وتؤكد العديد من البرلمانات على الاستقلالية المطلقة للموظفين البرلمانيين تجاه السلطة التنفيذية على غرار بريطانياوكنداوالغابونوبوركينافاسو وبلجيكا وكرواتيا وفنلندا واليونان والمجر وإيطاليا والأوروغواي ورومانيا وغيرها...، فعلى سبيل المثال: الأنظمة البرلمانية البريطانية: يرتبط مفهوم الاستقلالية بمبدأ سيادة البرلمان وضرورة الاعتراف بخصوصيات العمل البرلماني. كندا: يقوم الدستور الكندي على نفس المبادئ المعتمدة في الأنظمة البريطانية، حيث يخول القانون للبرلمان الكندي تسيير شؤونه الداخلية دون تدخل الأطراف الخارجية، كما أقرّ مسألة ذات طابع إداري تتمثل في الحق في اختيار موارده البشرية والتصرف فيها. كما يمكن للبرلمان أن يدفع أمام المحاكم أن مسألة ما ذات طابع إداري تنضوي تحت امتيازاته أو خصوصياته البرلمانية، لذلك قنّن المشرع في قانون المجلس الوطني بالكيباك معايير وعناصر استقلاليته في مادة التصرف في الموارد البشرية. الغابون: يكرس الفصل 46 من الدستور الغابوني الاستقلالية الإدارية والمالية للبرلمان ويحدد القانون ع10/99دد المؤرخ في 6 جانفي 2001 شروط ممارسة هذه الاستقلالية حيث يعتبر أنها في جانبها الإداري تقوم على إحداث نظام للوظيفة العمومية البرلمانية يتميز بتنظيم داخلي للمصالح وقواعد التصرف في الموارد البشرية داخل البرلمان. بوركينافاسو: أحدث البرلمان البوركيني الوظيفة العمومية البرلمانية به بمقتضى القانون ع-20-2009دد المؤرخ في 7 ماي 2009 الذي مثل أهمية على مستوى التأطير القانوني للأعوان فيما يتعلق بمسارهم المهني كما منح هذا القانون مكانة مميزة للعمل الإداري البرلماني وساهم في التكريس الفعلي لمبدأ الفصل بين السلط من خلال تكريسه لاستقلالية البرلمان في التصرف في موارده البشرية. وبالنظر إلى هذه المبررات الدستورية والقانونية والموضوعية والواقعية، هل تلوح في الأفق بوادر تطبيق أحكام الفصل 52 من الدستور لا سيما مع إمكانية إثارة موضوع استقلالية مجلس نواب الشعب من جديد بمناسبة المصادقة على ميزانيته لسنة 2018؟ بقلم: نجوى عوايطي (*)