لماذا تعثرت الإصلاحات بعد الثورة؟ ولماذا لم تستطع كل الحكومات التي جاءت بعد 14 جانفي 2011 أن تعيد الدورة الاقتصادية إلى سالف نشاطها؟ ولماذا عجزت الدولة عن استعادة مناخ الاستثمار المنتج للثروة المؤدية إلى تحسين الوضع الاجتماعي وخاصة الاستجابة إلى مطلب الثورة المركزي توفير مواطن شغل للكثير من الشباب العاطل؟ وفي الأخير هل يكون سبب تعطل الاصلاحات كثرة التشريعات التي سنّت بعد الثورة والتي هي اليوم تقيد وتكبل التطور المطلوب أم أن للقضية وجها آخر وتفسيرا مختلفا؟ إذا تجاوزنا ما تمر به البلاد في ظل الحكومة الحالية من وضع مالي محرج وتجاوزنا كذلك الحالة الاقتصادية الصعبة والتي يعلمها الجميع ويبرزها تراجع المؤشرات الاقتصادية وهي معطيات كتب عنها وقيل في شأنها كلاما كثيرا خاصة ما تعلق بالخلل في الميزان التجاري وتنامي التوريد العشوائي والذي يكلف الدولة كمية كبيرة من العملة الصعبة وعلاقته بتدمير نسيجنا الصناعي نتيجة المنافسة غير المتكافئة مع المصنع الأجنبي والخلل في التوازنات المالية والتداين المفرط الذي بلغ مستوى غير مسبوق وتقلص مخزون الدولة من العملة الصعبة وتدحرج قيمة الدينار ونسبة النمو الضعيفة وغير ذلك من المؤشرات السلبية التي تعطي صورة دقيقة عن الوضعية الحرجة التي وصلنا.. إذا تجاوزنا كل ذلك فإن الإجابة عن سؤال الحلول الممكنة لإنقاذ البلاد والسبل الكفيلة للخروج من هذه الأزمة الخانقة التي عجزت كل الحكومات عن معالجتها والتخلص من العراقيل التي تمنع القيام بالإصلاحات الضرورية والتي يحتاجها الاقتصاد حتى يستعيد عافيته تستوجب تجاوز البكاء على الأطلال وتتطلب التخلي عن ندب الحظ والذهاب عوضا عن ذلك إلى المبادرة بتقدم الحلول والمقترحات والرؤى التي تساعد على الخروج من حالة اليأس والعجز ومن هذه الأفكار أن الاصلاح الذي تحتاجه البلاد هو اصلاح هيكلي عميق وليس إصلاحا جزئيا ترقيعيا بمعنى أن يتناول الاصلاح جميع الأمور لترابطها مع بعضها من ذلك أنه لا يمكن الحديث عن إصلاح المنظومة البنكية أو الحديث عن التفويت في البنوك العمومية أو دمجها في بنك واحد من دون الحديث عن المؤسسات العمومية المرتبطة بهذه البنوك والتي تمولها وهي وضعية تعيشها البنوك والمؤسسات العمومية منذ سنة 2003 فوضعية المؤسسات العمومية التي تمر بصعوبات كبيرة والتي تمولها البنوك العمومية بنسبة 80% وتشغل في الآلاف من العمال هي وضعية مترابطة وحلها يكون بمعالجة كل هذه السلة من المشاكل المترابطة أما الحديث عن التفويت في المؤسسات العمومية التي تمر بصعوبات والتي أصبحت تمثل عبئا ماليا على الدولة لتواصل خسائرها بمفردها وبمعزل عن وضعية العمال الذين سيقع التخلي عنهم وتأثير ذلك على وضعيتهم الاجتماعية وعلاقة كل ذلك بمنظومة الدعم التي يستفيدون منها فهو حديث يؤدي إلى معالجة خاطئة وغير مفيدة. ونفس هذا الكلام ينسحب على إصلاح الصناديق الاجتماعية التي تمر بوضعية مالية محرجة تهدد بإفلاسها إن لم يقع تدارك وضعها المالي والتي تضطر الدولة منذ سنوات قبل الثورة وإلى اليوم أن تضخ سنويا أمولا ضخمة حتى تجد توازنها وتواصل في الاستجابة إلى طلبات المتعاملين معها وتسدي الخدمات الاجتماعية للمتقاعدين وهو إحراج للدولة يحتاج أن يتم إصلاحه وفق نظرة شاملة وعميقة لا مجرد ترقيع يقترح حلولا ظرفية وكل هذا الكلام يقونا إلى القول بأنه في موضوع إصلاح البنوك والمؤسسات العمومية والصناديق الاجتماعية نحتاج الي رؤية استراتيجية متكاملة تأخذ في الاعتبار كل هذه الأمور حتى يحصل الاصلاح فما حصل اليوم والذي تسبب في تأخير الاصلاحات وتعثرها هو أن معالجة كل هذه المواضيع تمت بنظرة أحادية ومعزولة وجزئية. أما قضية الإصلاح الجبائي وهو أهم إصلاح وأخطر إصلاح لارتباطه بالوضعية المالية للدولة وبأهم استحقاق من استحقاقات الثورة وهو تحقيق العدالة الاجتماعية والعدالة الجبائية فأنه يسير بنسق بطيء .. فهذا الاصلاح الذي بدأ منذ سنة 2013 وكان يرمي إلى تحقيق مزيد من العدل والإنصاف في توظيف الجباية خاصة وأن النسبة الكبيرة من موارد الدولة يتحملها الموظف والطبقة الوسطى فقط في حين لا تساهم الشركات إلا بنسبة قلية من هذه الموارد وتعفى جهات أخرى من تسديد أي أداء للدولة وهي وضعية كرست صورة غياب العدالة في استخلاص الجباية قد عرف تعثرا نتيجة عدة عوامل منها أن الاصلاح الجبائي هو بطبعه صعب ومرهق ويتعلق بالمجتمع كله وكذلك لكونه إصلاحا يلقى معارضة شديدة ومقاومة من الذين يستفيدون من المنظومة الحالية ويخشون على وضعهم المالي من الاصلاحات الجديدة لذلك نجد أن هذا الاصلاح يقاومه اليوم أصحاب المصالح ومجموعات الضغط الذين يساعدهم أكثر الوضع القديم. وكذلك تأخر الاصلاح لغياب الدعم الشعبي له وحصول تصور عند الناس من أن هذه الاصلاحات لن تكون في صالحهم وإنما هي تخدم الغني أكثر من الفقير ولاعتقادهم بأن أموال الجباية لن تذهب لصالح عامة الشعب وللجهات المهمشة والفئات المحتاجة. وفشل الإصلاح الجبائي كذلك لأن الداعين له يفتقدون لسياسة إصلاحية عميقة تأخذ في الاعتبار تردد القائمين على الادارة في الاصلاح ووقوفهم في طريقه خوفا من فقدان مواقعهم الإدارية ويأخذ في الاعتبار كذلك ضرورة التقليل من القوانين والتشريعات وتبسيطها إذ أن ما يعاب على الجباية التونسية أنها تخضع لتشريعات كثيرة وأنظمة استخلاص متشعبة تجعل منها جباية يصعب فهمها ويسهل التلاعب بها ويسهل كذلك على المتهرب جبائيا أن لا يؤدي ما عليه من حق للدولة وأخيرا تأخّر الإصلاح لغياب الارادة في تحقيق الجباية المحلية وعدم التخلي عن النظرة المركزية للجباية فمن دون تطبيق الجباية المحلية فإن أي اصلاح لن يحقق جدواه .