مثل التحرك الإماراتي المفاجئ ضد تونس بمنع عدد من الركاب التونسيين وخاصة النساء مهما كان سنهن ووضعهن الاجتماعي من صعود طائرات شركات الطيران الإماراتية نقطة استفهام كبرى وخطوة غريبة وغير مسبوقة من دولة عربية لم يجمعها بتونس سوى التعاون وحسن العلاقات... هذا التحرك الإماراتي فاجأ التونسيين مما جعل ردود الفعل عليه واضحة ومتعددة من قبل الحكومة ومنظمات المجتمع المدني وحتى من قبل الأفراد كل بطريقته. حول هذا التوتر وردود الفعل وما يقوله القانون والأعراف الدولية في هذا الإطار كان ل «الصباح» هذا اللقاء مع الدكتور سامي الجلولي الخبير في السياسات الخارجية والقانون الدولي المقيم بسويسرا، وفيما يلي نصه: منذ 2014 والعلاقات التونسيةالإماراتية في حالة فتور شهد أقصاه في المدة الأخيرة.. فما سبب ذلك حسب رأيكم؟ -نحن نعرف أن الانتخابات التشريعية والرئاسية التونسية تزامنت مع بداية ظهور للدور الإماراتي في المنطقة. في الواقع الإمارات بدأت في العمل منذ سنة 2013 من اجل تغيير الوضع القائم بالمنطقة وتحديدا في كل من مصر، ليبيا وتونس. هدفها إقصاء التيارات الإسلامية من الحكم. ولم يكونوا مستعدين للتعامل مع هذه النوعية من الأنظمة. نعلم أن الإمارات دعّمت جهات حزبية وجمعيات مدنية ووسائل إعلام في هذه البلدان من اجل الإسراع في التغيير وهذا الأمر لم يعد خافيا. وقد نجح الأمر في مصر ولكنه لم ينجح في تونس بالطريقة التي نجح بها في مصر، رغم صدارة حزب نداء تونس في الانتخابات البرلمانية واعتلاء رئيسه لرئاسة الجمهورية. إلاأن توافق حركة نداء تونس وحركة النهضة وإن خضع لحسابات سياسية داخلية إلا انه كان خيبة امل مدوية بالنسبة للنظام الإماراتي الذي كان يرى في إنهاء حكم الإخوان في تونس ضربة قاسمة للتيارات الإسلامية وبداية عهد جديد لأنظمة جديدة. خيبة الأمل وان قللت من فرص التغيير وفق المنهج الإماراتي إلا أن المشروع لم يخمد حيث عمدت الإمارات إلى زرع بذور الانشقاق داخل حركة نداء تونس ومحاولتها استدراج تيارات ليبرالية وحتى يسارية في صفها رغم رفض الخطة الإماراتية في بداية الأمر للتيارات اليسارية. لكن لماذا بالذات تونس التي عرفت دائما بهدوئها وعلاقاتها المميزة مع الجميع دون أن ننسى الدور الذي لعبه الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة؟ -لعل من الأسباب التي زادت من توتر النظام الإماراتي عدم مسايرة تونس للحلف الذي أسّسته دول الحصار (الإمارات، السعودية، مصر والبحرين) ضد قطر. لم يرق للنظام الإماراتي اختيار تونس النأي بنفسها عن هذه الأحلاف واختيارها الحياد الذي بدوره لم يكن ينظر اليه تحديدا من طرف الإمارات بعين الرضا ويفهم منه اصطفافا وراء الحلف القطري التركي. الإمارات رأت في ذلك طعنا في الظهر والحال أن تونس كدولة لم يقع ضخ أموال إماراتية إليها، بل إن ما دفع لبعض التيارات أو الأشخاص كان خارج المسالك القانونية والعادية ولم يقع استثماره في الصالح العام بل استأثر به البعض من الذين ظنت الإمارات انهم يمثلون وزنا سياسيا في حسابات التغيير لديها. من الأسباب الأخرى التي زادت في تعميق الهوة بين النظام الإماراتي والنظام التونسي كسر شركات تصنيع تونسية للحصار غير الملزم دوليا ولا يلزم إلا من اتخذه. تدفق السلع الغذائية التونسية إلى السوق القطرية وتموقعها في هذه السوق في حضور لسلع تركية، روسية وإيرانية مثّل للنظام الإماراتي تحديدا ضربا لحصته في هذه السوق. وعلينا أن نعلم أن قطر كانت تستورد من إمارة دبي ما يقارب 600 مليون دولار شهريا من السلع الغذائية. تونس ليست حلفا في هذا الصراع وموقفها كان منذ البداية محايدا أسوّة بباقي البلدان المغاربية. الاقتصاد التونسي غير مرتبط بالنظام السياسي كما هو الحال في الأنظمة الخليجية. ما لا يفهمه البعض أن تونس تحافظ على استقلالية قطاع الأعمال عن القرارات السياسية. فمن حق المصنّعين والشركات التونسية البحث عن أسواق خارجية لتسويق سلعها وهذا يخضع للإرادة الحرة للمصنّعين ولاقتصاد السوق المفتوح. لقد تناولتم في إحدى مداخلاتكم ملف سما دبي.. فهل لهذا الملف كذلك دور في توتر العلاقات بين البلدين؟ -ملف شركة سما دبي يعتبر من الملفات التي سمّمت العلاقات التونسيةالإماراتية منذ سنوات. الجميع يعلم أن الشريك الإماراتي لم يحترم بنود العقود المبرمة والتي من خلالها فرطت الدولة التونسية في أراض شاسعة جدا تحتل موقعا استراتيجيا، ومنذ مدة بدأ تململ الحكومة التونسية من ملف سما دبي ذلك المشروع الاستثماري العملاق الذي بقي حبرا على ورق. سما دبي «تملكت» بأراض استراتيجية في قلب تونس العاصمة ولم تلتزم بالعقود المبرمة مع الدولة التونسية التي نبّهت في كثير من المرات على سما دبي بالشروع في إنجاز المشروع أوإلغاء كل العقود المبرمة وتحميل الشركة غرامات تأخير قد تصل إلى أرقام فلكية. ما لا يعرفه كذلك البعض أن شركة سما دبي في حكم الشركات شبه المفلسة منذ الأزمة المالية التي ضربت قطاع العقارات في العالم سنة 2008.العديد يعرف أن تلك الصفقة تخفي ملفات فساد كبيرة وفتحها لا يروق لكثير من الجهات. على الدولة أن تطالب الجانب الإماراتي باستكمال المشروع أو فسخ العقود واسترجاع الأراضي. وهل يعقل أن تتدخل دولة ما في السياسة والسيادة التونسية.. وأي علاقة لتونس بالتجاذب الإقليمي السائد في منطقة الخليج خاصة؟ -التجربة التونسية رغم نقائصها وهنّاتها وأزماتها إلا أنها قائمة وتتحسس المطبات والمنعرجات. وهي ولا شك وان لم تكن في الطريق الصحيح إلا أنه لم يقع إعطابها أو الانحراف بها أو وأدها كمثل الذي حصل ويحصل في بلدان عربية أخرى. وهذا يعود إلى التركيبة السوسيولوجية للمجتمع التونسي الميّال بطبعه للسلم والحوار وإعمال العقل وهذه تراكمات تربوية وثقافية وأخلاقية اجتمعت على مرّ العقود. علينا أن نعلم انه في أحلك أزماتنا الاقتصادية لم تدعم الإمارات الخزينة أو الاقتصاد التونسي ولو بفلس واحد في الوقت الذي أغدقت فيه على النظام المصري عشرات المليارات من الدولارات خدمة لأجندتها النظامية. لقد ساوموا تونس بين اختيار الديمقراطية أو الدكتاتورية المغلّفة بالأموال الإماراتية. وضعوها أمام خيارات جدّ صعبة فهي بين سندان الحريات ومطرقة الوضع الاقتصادي الهش. لم تنحن تونس واستطاعت الخروج بأقل الأضرار. أثبتت التجربة التونسية أنها مالت مع الحريات وهذا اختيار لا رجعة فيه. هذا في الواقع يعود إلى قوة المجتمع المدني التونسي الذي يستمد قوته من خارج الرعاية النظامية للسلطة. تجربة تونس التراكمية عبر مئات السنين في طرق الحكم وانفتاحها على المناهج الاقتصادية ليبرالية أو اشتراكية ونهلها من مختلف المشارب الثقافية وانتهاج الخط التحرري العقلي جعلها في مأمن من كل الهزّات والصدمات التي خلّفتها التحولات السياسية في تاريخها المعاصر. قوة تونس من قوة المجتمع المدني وقوة المجتمع المدني من قوة نسائه فوضع المرأة التونسية يعتبر من أفضل الأوضاع في العالم ولهذا أرادوا ضرب المجتمع المدني عبر إذلال نسائه، فكان رد المجتمع المدني قويا خاصة من رجالاته. الموقف الرسمي التونسي كان حاسما تقريبا هذه المرة.. فهل كان على تونس التصعيد أكثر؟ -الموقف الرسمي التونسي مما حدث لم يكن متأخرا وكان حكيما وبعيدا عن الضوضاء ولكن كان كذلك بضغط مباشر من المجتمع المدني. موقف سيحسب للنظام التونسي مهما كان مصدره رئاسيا أو حكوميا وجنّب البلاد نكسة نفسية كانت ستكون مدمّرة. تونس استرجعت أنفاسها وخرجت قوية بعد القرار الذي اتخذته بمنع الطيران الإماراتي من الهبوط أو التحليق فوق أجوائها.أما عن موقف بعض الأطراف السياسية التونسية المعروفة بقربها من الإمارات فقد كان محبطا. لقد أثبتت الأزمات الفارطة والأزمة الحالية أن خلاص تونس في الابتعاد عن مربع التحالفات التي أضرّت بالنسيج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وحتى الفكري التونسي. خلاصنا في التعويل على مقدراتنا البشرية وحسن استثمار مواردنا الطبيعية. خلاصنا في التحرر من كل الإكراهات الخارجية. يجب كنس ساحتنا السياسية من كل تدخل أجنبي والتأسيس لقرار وطني شجاع ومن ثمّة العمل من اجل تثمين ثروات بلادنا وبنائها. نحن لسنا في حاجة إلى مساعدات أجنبية مذلّة. لنا ما يكفينا من الموارد والثروات. علينا أن نتعظ من دروس التاريخ القريب. فدول كألمانيا واليابان وقع تدميرها ثم عاودت الوقوف من جديد واسترجعت قدراتها التصنيعية. هذه البلدان وإن دمّرت في بنيتها التحتية فهي لم تدمّر في بنيتها الفكرية لهذا نهضت من جديد وبخطوات أسرع وما تبوّأها اليوم صدارة الصناعة في العالم إلا دليل على ذلك. وأي مخرج ترونه لهذه الازمة وهل تعتقدون أنها ستطول؟ -من وجهة نظر القانون الدولي ما حدث سابقة قانونية خطيرة جدا وكما بينّا ترتقي إلى مرحلة إعلان حرب acte hostile. بالنسبة للدولة التونسية يمكنها رفع دعاوى قضائية في طلب جبر الضرر المادي والمعنوي وهنا نتحدث عن قضايا تعويض بمليارات الدولارات Dommages et intérêts à titre punitif. وبحكم أن الدولة التونسية لن تفعلها لاعتبارات عدّة فيمكن للجمعيات ومنظمات المجتمع المدني القيام بذلك شرط ألاّ تكون أمام القضاء التونسيأوالإماراتي أو الفرنسي ولا حتى السويسري لأن هذه الدول لا تحكم بالتعويض العقابي وإنما بالتعويض الرمزي. رفع الدعاوى يكون أمام القضاء الأمريكي أوالإنقليزي وقد يؤدي إلى إلحاق خسائر فادحة في شركات النقل الجوي الإماراتي لأن التعميم عام بمعنى شمل جل مطارات العالم واستهدف ما يزيد عن 5 مليون امرأة تونسية. هناك ترسانة من القوانين المنظمة للنقل الجوي، قواعدها واضحة وصريحة.