قدم المسرحي محمد رجاء فرحات عرضا ثانيا لمسرحيته الجديدة «المنصف باي» بالمسرح البلدي بالعاصمة في سهرة السبت 6 جانفي وذلك في إطار «أيام كونكت الثقافية الأول «. وقد تابع الجمهور الذي يتكون في أغلبه من مهتمين بالحقبة التاريخية التي يتعرض لها العمل، العرض المسرحي الجديد الذي يشارك فيه الممثل رؤوف بن عمر والمسرحية آمال الفرجي، بفضول كبير ذلك أن العرض يحتفي بشخصية المنصف باي الذي حكم تونس سنة 1942 ولم يدم حكمه أكثر من 11 شهرا إذ عزلته السلطات الاستعمارية الفرنسية ونفته خارج البلاد حيث نقل في البداية إلى منطقة الأغواط بالجنوب الجزائري ثم نقل إلى منطقة «بو» جنوبفرنسا ولم يكن مرفوقا في البداية إلا بمعينه الشاذلي قائد السبسي قبل أن تلتحق به عائلته في منفاه. ولم يعد المنصف باي لتونس إلا بعد وفاته وحظي بجنازة شعبية هائلة في سبتمبر 1948 وبكته الجماهير بحرقة كبيرة. ويرقد جثمانه في مقبرة الجلاز غير بعيد عن جثمان الراحلة للا قمر. وقد تم الإلحاح في هذا العرض المسرحي على أن المنصف باي دفن في الجلاز وليس في مقبرة البايات (تربة الباي) بتوصية خاصة منه، رغبة منه في الالتحام بالشعب التونسي في حياته وبعد مماته. انطلق العرض بمشهد صامت كان يقف فيه محمد رجاء فرحات بلباس عصري ( كسوة ومعطف) باستثناء الشاشية الحمراء إلى اليسار ورؤوف بن عمر بلباس البايات الأحمر والأبيض المزركش والمزين بالأوسمة والنياشين) لنعرف فيما بعد أنه يجسد شخصية الأمين باي الذي تسلم الحكم بعد عزل ابن عمه المنصف باي عن العرش. وتتوسط الشخصيتان آمال الفرجي التي كانت جالسة بأنفة كبيرة على كرسيها الوثير الذي كان منتصبا على منصة حمراء وسط الركح. وعرفنا أنها تجسد شخصية «للا قمر» المرأة التي كان لها تأثير كبير على عدد من البايات على امتداد عقود ومن بينهم المنصف باي الذي كانت زوجة أبيه وبمثابة أم ثانية له. مشاهد تمثيلية قليلة ولكن المشاهد التمثيلية كانت قليلة جدا. فقد اكتفى رؤوف بن عمر في ظهوره بالصمت ولم نستمع إليه إلا في مشهد واحد تقريبا عندما روى حكايته مع العرش وهو مشهد نزّه فيه الأمين باي عن كل التهم ونفى كل ما راج عنه من أنه استفاد من وضعية المنصف باي لأنه حل محله على العرش (وقال أنه كان مستعدا للتخلي عن العرش لو عاد المنصف باي إلى تونس) وإذ نزه العمل المسرحي الأمين باي فإنه شيطن صلاح الدين البكوش الوزير الأكبر في حكومة الأمين باي ووصفه بأقذر النعوت. أما آمال الفرجي فقد روت قصة نفوذ «للا قمر» الفتاة الجميلة التي جاءت من اسطمبول هدية للعائلة المالكة وسرعان ما احتلت مكانها في قلوب أصحاب العرش إذ تزوجت من ثلاثة بايات وكانت ذات نفوذ كبير وقد بني قصر السعادة بالمرسى (قصر البلدية اليوم) من أجل عيونها. لكن ولئن حقق العرض جانبا من أهدافه وهو التعريف بشخصية المنصف باي فإن الاختيارات تناقش شكلا ومضمونا. ويجب الاعتراف بأن معلقة مسرحية «المنصف باي» كان فيها نوعا من الخديعة فهي توحي بكل شيء إلا بأن العرض هو بيداغوجي أكثر منه فرجوي وأن الرواية التاريخية أو لنقل احدى الروايات التاريخية تمر على حساب الفرجة ومتعة المشاهدة.. فالمعلقة التي تضم شخصيات المسرحية الثلاثة توحي بمشهد شبيه بمشهد مأخوذ من أحد المسلسلات التركية التي تهتم بسيرة السلاطين العثمانيين، لكن الحقيقة وبخلاف مشاهد قليلة، فإن العمل المسرحي الجديد هو عبارة عن مونودراما حيث يقوم المسرحي محمد رجاء فرحات بدور الراوي لسيرة المنصف باي وللأحداث التاريخية التي عاشتها بلادنا خلال فترة حكمه لتونس وعن ظروف البلاد في ظل الاستعمار الفرنسي وفي فترة عرفت فيها الحرب العالمية الثانية أوجها. فبلادنا عاشت معارك حاسمة في هذه الحرب دون أن تكون طرفا مباشرا فيها، إذ أن القوى المتحاربة التقت على الأرض التونسية وكانت تونس في وقت ما تضم ما لا يقل عن نصف مليون جندي سواء من جنود المحور أو جنود الحلفاء. وبقدر ما نعترف لمحمد رجاء فرحات بقدرته على السرد وعلى إثارة اهتمام السامع بأسلوبه الذي يجمع بين التشويق والإفادة فإننا توقعنا عملا مسرحيا تمثيليا فرجويا وجماليا مختلفا عما شاهدناه. توقعنا أن يكون الديكور مختلفا وأن يجمع العمل بين متعة الفرجة وبين الأهداف الأخرى ومن بينها رد الاعتبار لشخصية المنصف التي همشت مثلها مثل غيرها من الشخصيات الوطنية التي كانت ضحية التعتيم الكامل بعد الاستقلال. ربما يكون محمد رجاء فرحات قد فتح المجال للخوض في تاريخ البايات الذي بقي مغيبا لفترة طويلة بعد استقلال البلاد وإلغاء النظام الملكي ووضع حد لحكم الدولة الحسينية وربما نجح في القاء الضوء على جزء من تاريخنا المعاصر وعلى فترة كان فيها الشعب التونسي يعاني الفقر والتهميش والجهل وفوق كل ذلك كان يعاني من الاستعمار لكننا في الحقيقة توقعنا شيئا آخر أكثر جاذبية وأكثر فرجوية . ولم نتوقع أن نكون في حضرة درس أكاديمي يتمتع فيه صاحبه بالمقدرة على مسرحة الأحداث وعلى سردها بأسلوبه الخاص مع تطعميها بفقرات من أقوال لشخصيات وطنية ولممثلين عن السلطة الفرنسية لا سيما المقيم العام آنذاك الذي ترك نصا قال فيه ما معناه أنه شهد ولادة شعب جديد في تونس بدأت بدفن المنصف باي.. درس أكاديمي ممسرح أكثر منه عملا مسرحيا متكاملا وفعلا من أبرز مزايا العرض أنه فسر لماذا كان المنصف باي الذي صعد على العرش سنة 1942 يحظى بشعبية كبيرة على خلاف بقية البايات الذين تداولوا على حكم البلاد منذ تأسيس الدولة الحسينية. فقد توقف الراوي كثيرا عند وطنية الباي والتحامه بالشعب ودفاعه عن حق التونسيين في السيادة الوطنية وتجاهل السلطات الفرنسية خاصة بعد تكوين حكومة برئاسة محمد شنيق وتضم وزراء من الشخصيات الوطنية وقد شدد الرواي على ان المنصف باي لم يرث الحكم فحسب وإنما ورث حب الانتماء للوطن الذي غرسه فيه والده الناصر باي الذي وقف في وجه المستعمر. فرحات حشاد في قلب الحدث ولم يحتف العرض بالمنصف باي فحسب وإنما احتفى حفاوة كبيرة بالزعيم الوطني والنقابي فرحات حشاد الذي كلف بتنظيم جنازة الراحل المنصف باي لكن كل ذلك لا يشفع لهذا العمل المسرحي الكلاسيكي جدا الذي تواجهت فيه قوى الخير مع قوى الشر وكانت فيه الشخصيات إما مثالية إلى درجة أسطورية على غرار المنصف باي وفرحات حشاد وحتى معين الباي الشاذلي قائد السبسي أو بائسة وغبيّة على غرار بعض الشيوخ التونسيين في علاقتهم بالألمان ومفتي القدس على خلفية إعلان مساندته للألمان كذلك... وإن كنا لا ننفي عن العرض السبق في فتح ملفات منسية أو لا تحظى بإقبال كبير من المبدعين ومن المؤرخين وحتى من الإعلاميين لكن نتصور أن التسرع ربما حال دون تقديم عمل ابداعي يحقق هدفين اثنين وهما رد الإعتبار وتقديم عمل فرجوي قادر على استقطاب الجمهور. فالعرض إلى حد علمنا غير موجه للنخبة (ليس لها وحدها على الأقل) القادرة على تحمل عمل سردي مباشراتي يتنقل فيه صاحبه ولو كان باقتدار بين اللغتين الفرنسية والعربية وإنما إلى عامة الناس التي نجحت الدعاية السياسية بعد الإستقلال في جعلها تبتلع كل الروايات الرسمية لتاريخنا المعاصر بلا شك وبلا رغبة في التشكيك فيما روي من احداث. ونعتقد أن تعديلا بسيطا بإضافة مزيد من المشاهد التمثيلية وبث بعض الحيوية على الركح يمكن أن ييسر مهمة المتفرج ويساعده على هضم ما جاء فيه من رسائل سياسية وحضارية... فالعمل في روحه وجوهره ليس بدون فائدة على الأقل في جانبه التوعوي لكن نعتقد أنه يحتاج لبعض المراجعات خاصة على مستوى الشكل وعلى مستوى الخطاب المسرحي.