ينتمي الأستاذ هشام جعيط إلى جيل استثنائي بكل المقاييس، جيل وقف على جسور متحركة ومتشابكة ومفتوحة في الآن ذاته على أكثر من وجهة. لقد لحق في صباه بعضا من سنوات الاستعمار وعاين في أوج شبابه فأل الاستقلال ووعوده ورافق عقودا مهمة من بناء الدولة الوطنية وجل المنعطفات التي مرت بها تونس والأمة العربية فيما بعد بكل آمالها وخيباتها حتى أدرك الثورة ولا يزال يتابع منعرجاتها بكل اهتمام . نهل الرجل من معين الثقافة العربية «العتيقة» وانعتق منها وغرف من المعارف الغربية الحديثة دون انفصام أو عقد فلم يدر ظهره بحثا وانتماء إلى ذلك التراث الذي حاول قراءته في ضوء أحدث مناهج التاريخ والفلسفة دون اسقاطات متعسفة ووفق الكثير من العقلانية والحذر. لم ينج الرجل من فتنة الماضي، بأحداثه العظام وتفاصيله البليغة، ولكنه كان في كل ذلك مشدودا الى عقلانية صارمة في ذات الوقت حتى يقدر على فك شفرة تاريخ مبكر غير قسمات العالم وملامحه بشكل عميق. كان الأستاذ هشام جعيط مشدودا إلى البحث عن معنى لهذا التاريخ وهو المعنى الذي تحكم فيه ودله على وجهته قرونا عديدة. كان يقف على تاريخ ولّى ولكنه كان يدرك انه ما زال حاضرا بشكل ما في ثنايا المخيال وشرايين الثقافة وبناها الدقيقة النفسية والذهنية مخالفا في «منهجه وفلسفته هذه» العديد من أبناء جيله، عربا ومستشرقين ممن انخرطوا في نزعة تطورية ساذجة أحيانا تعتقد أن «التقدم» تكفل بتصفية تلك التركة وبشكل نهائي. لقد كان يدرك ان استمرارية خفية ما ظلت ثاوية في ثنايا تاريخنا تتغذى من نُسغ لم تجف بعد بل ان منسوبها قابل للتجدد في سياقات محفوفة بالتوتر واللقاءات الصادمة ومع ذلك لم يكن الرجل فيما كتب عن الثقافة العربية عموما مطمئنا إلى السكن في التاريخ بيتا مغلقا بل على خلاف ذلك شرع أبواب التاريخ على الحاضر بكل تعقيداته فكتب في أسئلته الراهنة وقضاياه الملحة مثقفا خارج جدران الاختصاص حتى أن البعض يعتقد أن سمعة الرجل المرموقة وشهرته تعودان في جزء كبير منهما إلى تلك المباحث بالذات رغم أنه ظل يفضل دوما كتاباته التاريخية وتحديدا حول ما عاد يعرف بتاريخ الإسلام المبكر. لقد ظل الأستاذ هشام جعيط مربكا ومثيرا لا يهدأ ولا يستكين لأنه كان حريصا على أن يكتب ما كان مؤمنا به ولم يكن في كل ذلك ينتج وفق «طلب عروض» ما كانت الساحة الفكرية تمليه من شروط و معايير النجاح بشكل مسبق. لم يكتب الرجل إلا فيما آمن به وتعلق. لذلك غامر وبكّر وجازف في مباحثه اهتماماته فكان أول من درس «»تاريخ الإسلام المبكر» في قسم التاريخ بالجامعة التونسية وقد كان هذا المجال مقصورا على دراسات تقدم في أقسام أخرى ولم يكن الرجل يعي آنذاك أنه بتلك المبادرة غير المسبوقة كان يضع لبنة تأسيسية لمدرسة قائمة الذات منحت جيلا كاملا من الباحثين والطلاب والمخابر فيما بعد أدوات ومناهج مختلفة أثرت بشكل إيجابي في غيرها من الاختصاصات المجاورة . ترك الرجل الدرس الجامعي مبكرا وفي ظروف ملتبسة قد تكون دفعته دون رغبة منه الى مغادرة الجامعة بل أن جل المؤشرات كانت تشي بأنه لم يكن مرغوبا فيه لدى بعض دوائر سلطة الاستبداد فتعجلت خروجه آنذاك بل ان البعض كان ينتظر تقاعده بهذا الشكل حتى يطمئن ولكن سفه الرجل أمانيهم فأنتج خارج جدران الجامعة ما فاق إنتاجه وهو بين مدارجها لأن للعلم والمعرفة مساحات أوسع وأرحب من ذلك. كانت كتابة عاشقة للتاريخ والحقيقة والمعنى لذلك لم تنقطع لان كتابة التاريخ كانت مهنته وهويته. ساهم الأستاذ هشام جعيط بشكل ثاقب في إثراء الدراسات الإسلامية وتجديد مناهج البحث فيها وفي الثقافة العربية عموما كما فتح جسر الالتقاء والحوار والمقارنة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية محللا مختلف أنماط التفاعل بينهما في سياقات هادئة أحينا و متوترة أحيانا أخرى. لم يكن الرجل منتميا إلى تنظيمات أو أحزاب ولكن كان منخرطا بشكل مرهف وحساس في جل قضايا وطنه واتخذ مواقف لم تلق اجماعا لكنه لم يكترث لأنه كان مؤمنا بها زاهدا في تبعاتها ومع ذلك لم يكن نضاله على حساب التزامه المعرفي. لكل تلك الخصال التي يعسر تعدادها واعترافا منه بتلك الخصال العلمية القيمة التي تحلى بها حرص المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تونس على تكريم الأستاذ هشام جعيط فجمع المقالات التي تفضل ثلة من طلابه وزملائه بتقديمها بمناسبة ذكرى عيد ميلاده تكريما وجلالا له وحرص على نشرها آملا ان تجد لدى القراء قبولا حسنا وتثري الدراسات العلمية حول إنتاجه العلمي الغزير. *مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.تونس