قد يكون من الصعب اليوم الكتابة او الحديث عن زعيم بحجم جمال عبد الناصر، والارجح ان الحديث عن مسيرة رجل جمع أكثر من لقب فهو العسكري والسياسي والمناضل والمثقف الذي ترك بصماته بقوة في الذاكرة العربية والمصرية، وهذا ليس بالأمر الهين اليوم بالنظر الى ما تعيشه مصر ومعها المنطقة العربية من تحولات متسارعة ليست بمعزل عن تداعيات أحداث عسكرية غيرت حدود المنطقة قبل أكثر من نصف قرن.. ومن ذلك هزيمة ال67 التي كانت هزيمة نفسية وسياسية وعسكرية وثقافية لم يكتب للعرب ان يستفيقوا من وقع الصدمة التي اصابتهم بعد... وإنه برغم انتصار 73 لاحقا فإن ما فرضته نتائج تلك الحرب على اكثر من بلد عربي اقتطعت منه مساحات مهمة من سيناء مصر وقدس فلسطين التي كانت تحت الاردن وجولان سوريا والتي باتت تحت الاحتلال الاسرائيلي... لقد امتلك عبد الناصر قدرة خطابية وهو ما يفسر تأثيره على النفوس، يجمع الكثيرون على انه نصير الفقراء و»الغلابة» على حد تعبير المصريين. الكثيرون يصرون على أنه عروبي قومي حتى النخاع، وأنه حمل القضية الفلسطينية في دمائه، تماما كما جعل من كرامة المواطن وخبزه عنوان المعركة التالية للمعركة الوطنية.. سيقول عنه البعض انه بطل استثنائي ترك برحيله فراغا رهيبا على الساحة المصرية والعربية. وفي المقابل فان جيلا آخر سينزع عنه صفة الزعيم الذي لا يقبل التشكيك والنقد وسيخضعه للجلد الذاتي الى درجة الانكار.. وقد يرى بعضهم فيه زعيما مندفعا الى درجة التهور يفتقر لبعد النظر واستقراء المخاطر وأنه قد جر بذلك على مصر وعلى المنطقة الكثير من المآسي التي تجرفها بعد أكثر من نصف قرن على رحيله.. الحقيقة أنه لا يمكن الا لجاحد ان يسقط عبد الناصر من الذاكرة المصرية والعربية، فقد كان ملهم الكثيرين ولا شك أن في تحرك الشارع المصري ساعات بعد اعلانه استقالته إثر هزيمة 67 وفي الموكب الشعبي الذي خرج لتوديعه بعد موته المفاجئ في 1970 ما يعكس مكانة وقيمة الرجل.. قد لا يعرف الجيل الراهن الكثير عن عبد الناصر.. تماما كما لا يعرف الكثيرون في امريكا القليل أو الكثير عن مارتن لوثر كينغ أو غيره من الاسماء التي غيرت مجرى التاريخ والاحداث في امريكا.. الا ان الاكيد أن حرص الامريكيين في مختلف الاوساط على الاعتراف بمكانة هؤلاء يتنزل في احترام الامم والشعوب لرموزها الوطنية وقياداتها... وعبد الناصر ليس دون ذلك شأنه شأن غيره من القيادات من معاصريه الذين كانت لهم احلام كبيرة بتغيير واقع شعوبهم والارتقاء بها الى مرتبة الدول المتقدمة ... بالتأكيد لعبد الناصر حسابات خاطئة وتوجهات يتضح اليوم أنها لم تكن صائبة ولكن الاكيد أن الرجل خاض عديد المعارك التي لم يكن الانتصار حليفه فيها.. ولا أحد يملك اليوم ان يشكك في نزاهته ووطنيته وصدقه.. بالامس لم تغب ذكرى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في مائويته عن اغلب الصحف المصرية التي توقفت مطولا عند مسيرة الرجل التي انتهت مبكرا وفي ذلك نقطة ايجابية للإعلام المصري الذي وللأسف ظل محكوما بالكثير من النواميس والقيود التي يفترض أن تكون سقطت بعد التحولات الحاصلة في هذا البلاد وسقوط نظام مبارك.. وقد تساءل الكثير منها عما بقي من زمن ناصر، وهنا مربط الفرص والسؤال الذي يفترض أن نتوقف عنده جميعا لنسأل بدورنا أين نجح عبد الناصر وأين أخفق ولماذا؟. والسؤال ذاته ينسحب على بورقيبة في تونس وعلى غيرهما من الزعماء العرب حتى يمكن التطلع الى الامام، لا بالتنكر لهم ولكن بإعادة تقييم ما تحقق معهم والانصراف الى اعادة تحديد الاولويات وتحقيق الاحلام التي فشلوا في تحقيقها... لم يكتب لعبد الناصر تحقيق الوحدة العربية التي كان يتطلع اليها.. ساند حركات التحرر في العالم الثالث وقد يجوز القول انه كما كان عبد الناصر بورقيبيا في توجهاته فقد كان بورقيبة ناصريا في احلامه... ربما كان لكل منهما تطلعاته بأن يكون القائد والزعيم العربي الاكثر نفوذا، ولكن الارجح أنه وبرغم كل الاختلافات فقد كان بورقيبة اكثر واقعية. خلاصة القول ان الشعوب العربية كانت حينها ازاء طينة مختلفة من الزعامات التي برغم الانتكاسات والخيبات فازت بثقة واحترام مواطنيها...