لا تزال مسألة استثمار القطاع الخاص في «الثقافي» غير مغرية بالنسبة لرجال الأعمال والمؤسسات الاقتصادية الكبرى الرائدة والقادرة على الاستثمار وذلك رغم دفع سياسات أغلب الوزراء الذين تداولوا على وزارة الشؤون الثقافية بتعاقب الحكومات في تونس ما بعد الثورة. وتعدد المبادرات والبرامج التي تشجع على الاستثمار في هذا المجال على غرار «الرعاية الثقافية» في قانون 2014 وما تضمنه من تشجيعات جبائية وحوافز مالية للترغيب في الاستثمار في الثقافة والتراث إضافة إلى تخصيص لقاءات تحسيسية وبرامج تكوينية موجهة لجميع شرائح المجتمع بما في ذلك رجال الأعمال والطلبة خاصة بتكوين مستثمرين في الحقل الثقافي. ليظل الانتاج والإبداع في تونس بشكل عام مرتبطا ضرورة بدعم وزارة الشؤون الثقافية الأمر الذي أثر سلبيا على مستوى وقيمة الانتاجات رغم ما تتوفر عليه بلادنا من كفاءات «بمقاييس» عالمية في مختلف القطاعات الفنية والثقافية. باستثناء بعض مبادرات دعم القطاع الخاص التي أقل ما يقال عنها أنها «محتشمة» ولا تفي بحاجة المواهب والطاقات الإبداعية للدعم والرعاية المطلوبة لإنجاز مشاريع قيمة ووفق المقاييس المطلوبة التي تخول لها فرض نسقها على مستويين وطني ودولي، رغم قدرة هذه الكفاءات على ذلك في مختلف المجالات. ورغم ما تسجله الأوساط الثقافية من مبادرات في ذات السياق إلا أن أغلبها ليست مشاريع استثمارية كبرى لرجال أعمال، بل هي مجرد مشاريع لفنانين وناشطين في الحقل الثقافي اختاروا بعث مشاريع خاصة في هذا المجال وذلك بقطع النظر عن أهداف هذه المشاريع الاقتصادية وأبعادها الثقافية والاجتماعية والتجارية، باعتبارها مجال تنمية وتشغيل من ناحية وعامل لتكريس الثقافة، بمختلف مجالات تشكّلها وتلويناتها وتوجهاتها، كعامل يدفع للحياة بصفة عامة. فكان التوجه في البداية إلى المراهنة على رجال الأعمال والمؤسسات الكبرى العمومية منها أو الخاصة نظرا لقدرة هذه الجهات على ضمان تأمين إنجاح مشاريعها خاصة أمام حوافز خصم نسب من نسب الضرائب الموظفة على رجال الأعمال والمؤسسات الخاصة، إلا أن انتظارات الجميع من ذلك لم تتحقق بالشكل المطلوب واقتصر الأمر على بعض المبادرات في سياق دعم ما هو ثقافي سواء في مستوى المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية الكبرى في شكل استشهار، فيما غابت المشاريع الثقافية الاستثمارية الكبرى في الحقل الثقافي. فنانون ومثقفون على خط الاستثمار غياب المشاريع الثقافية الاستثمارية الكبرى لم يمنع من دخول عدد من الفنانين والمثقفين والناشطين في الحقل الثقافي على الدخول على خط الانتصاب للقطاع الخاص في المجال سواء أكانت هذه المشاريع بتمويل من الحساب الخاص لأصحابها او بتمويل مؤسسات بنكية. خاصة أن بعض هذه المؤسسات الكبرى ما انفكت في السنوات الأخيرة تتشدق «بالثقافي» وتستحضره ضمن استراتيجيات برامجها الثقافية والاجتماعية على أنه عنصر أساسي في برامج نشاطها وعملها وفق ما تدفع له سياسة الدولة من أجل دفع هذا القطاعات لتكون آليات تنمية وتشغيل من ناحية ولمساهمة هذه المؤسسات في دعم وتشجيع المواهب والإبداعات الفنية والثقافية. وهي مبادرات تظل «محتشمة» لأنها لم ترتق لتكون في مرتبة مشاريع قارة وتنموية بل كانت عرضية ولم تخرج عن «شكلانية» حضور الثقافي في برامج الأحزاب السياسية. وبعيدا عن منطق الدعاية والترويج لهذه المشاريع فإننا نستحضر بعضها على سبيل المثال ومن باب الذكر لا غير وهي فضاء «أمام الكاميرا» الذي يتيح للمتعلم تكوينا في الوقوف على الكاميرا الذي يديره الممثل والمسرحي عاطف بن حسين فضلا عن فتح الفنان حسان الدوس لفضاء خاص «دار الفن» وسط العاصمة والذي يخصص دروسا في المسرح والرقص وغيره من المجالات الفنية الأخرى بإشراف مختصين في المجال. إضافة إلى فتح الفنان محمد الجبالي في الآونة الأخيرة معهدا خاصا في الموسيقى والفنون وقد سبق الجميع الملحن عبد الكريم صحابو بفتح معهد خاص للموسيقى ساهم في تكوين عديد المولعين بالموسيقى والعزف. وهو تقريبا ما تقدمه بعض الجمعيات المختصة في ما هو ثقافي خاصة منها الجمعيات الثقافية بالأساس وليست المؤسسات والجمعيات ذات المنحى التجاري الربحي البحت ومن بين هذه الأمثلة جمعية مقامات للموسيقى وجمعية «علمني نتعلم» وغيرها من الجمعيات الأخرى التي توفر للموهوبين تكوينا في العزف والغناء بإشراف أكادميين ومختصين في المجال من تونس ومن العالم. فضلا عما تتيحه مثل هذه المبادرات من فرص عمل ونشاط وتشغيل للكفاءات التونسية لاسيما في ظل تداعيات الظروف والصعوبات الاقتصادية على حركة العمل والإنتاج الفني والثقافي في تونس في هذه المرحلة لتجد عديد الكفاءات مجالا للممارسة تخصصها في القطاع الخاص على غرار شهرزاد هلال والراقص والكوريغرافي رشدي بلقاسمي وغيرهم من المسرحيين والموسيقيين. في توجه آخر للاستثمار في الحقل الثقافي لفئة أخرى من أهل الثقافة والفنون تسجل الأوساط ظاهرة انتصاب المقاهي والفضاءات الثقافية وهي مشاريع أقرب ما تكون لموارد رزق ومصدر عيش لبعض أبناء هذا الحقل بعد أن شحت الأعمال ومورد الرزق ووجدوا في فتح مثل تلك الفضاءات موارد للعيش من ناحية والمحافظة على انتماءاتهم لحقل الإبداع وتأكيد على تشبثهم بذلك الانتماء من ناحية أخرى. ولعل في توجه أهل الثقافة والناشطين في هذا الحقل لبعث مشاريع في الغرض قد يكون بوادر لكسر الحواجز وتشجيع الآخرين على جعل مسألة الاستثمار في «الثقافي» عملية مغرية ومشجعة وتدفع للنسج على المنوال بما يفتح آفاقا أفضل لهذا المجال خاصة أمام الامتيازات والتسهيلات التي توفرها منظومة وزارة الشؤون الثقافية في الغرض.