لم تسجل الساحة الثقافية في سنة 2017 أحداثا و"انجازات" من الحجم الثقيل في جميع القطاعات الثقافية والفنية تقريبا، مقارنة بما تحقق في سنوات ما بعد الثورة والتي سجلت خلالها جميع القطاعات طفرة كمية ونوعية في الانتاجات في قطاعي السينما والمسرح بالأساس، بل اتسمت بالرتابة المخيمة على المشهد عامة من ناحية والنمطية و"العسر" في سير وتنظيم التظاهرات الثقافية والمهرجانات الكبرى المتعارف عليها و"الهزات" التي عرفها المشهد في نفس السياق من ناحية أخرى، فضلا عن التراجع المسجل في مستوى الإنتاج الثقافي والفني التونسي بشكل عام وتواصل غياب برامج ثقافية عملية وواضحة. لكن الاستثناء الوحيد تقريبا سجله قطاع الأدب والفكر تحديدا في مجال الكتاب على نحو كانت الحصيلة مواصلة للانجاز القياسي المسجل في نفس المجال في عام 2016 والتي تجاوزت فيها حصيلة الإصدارات التونسية الألفي كتاب. محققة بذلك قفزة ونقلة نوعية في مستوى العدد ونوعية وقيمة الإصدارات رغم ما يعيشه القطاع من صعوبات في النشر والتوزيع. إذ يكفي الاستشهاد بما سجله القطاع من محطات مضيئة خلال هذا العام على مستويين وطني ودولي من قبيل فوز الدكتور حمادي صمود بجائزة العويس الثقافية في مجال الدراسات والنقد التي تمنحها مؤسسة سلطان علي بن علي العويس الثقافية بالإمارات نهاية نوفمبر الماضي وفوز الكاتب كمال الرياحي بجائزة ابن بطوطة العربية لأدب الرحلة عن كتابه "واحد صفر للقتيل". والنقطة المضيئة التي سجلتها الساحة الثقافية في مجرى هذا العام هو بداية صحوة قطاع الموسيقى بعد الركود الذي خيم على المشهد في سنوات ما بعد الثورة. إذ ما انفكت الأوساط الفنية تسجل حركية موسيقية ترجمتها الأعمال والإنتاجات الجديدة لبعض الفنانين سواء أتعلق الأمر ببعض الفنانين القدامى الذين سجلوا عودتهم لساحة النشاط والعمل بعد غياب لسنوات على غرار أمينة فاخت وصوفية صادق ونوال غشام وعدنان الشواشي وأحمد الشريف وأيمن لسيق أو مواصلة بعض الأسماء الأخرى المضيّ في طريق الإنتاج على غرار شهرزاد هلال ومحمد الجبالي وغيرهم. تراجع مقابل ما سجل من طفرة في سنوات ما بعد الثورة. من جانبه سجل الإنتاج السينمائي تراجعا في مستوى الإنتاج مقارنة بما عرفه من طفرة في عدد الأفلام في سنوات ما بعد الثورة سواء في مستوى الأفلام الوثائقية أو غيرها من الأفلام الروائية والقصيرة وذلك بعد أن سجل انجاز 84 فيلما من بينها 16 وثائقيا. ومن أبرز هذه الأعمال "على كف عفريت" لكوثر بن هنية و"أمواج متلاطمة" للحبيب المستيري و"تونس الليل" لإلياس بكار و"الجايدة" لسلمى بكار. وهي أفلام خرجت لقاعات العرض مؤخرا أي إثر نهاية الدورة الأخيرة لمهرجان أيام قرطاج السينمائية وما انفك يطالعنا في الأيام الأخيرة صدى نجاحاتها على مستويين عربي وعالمي من خلال الحصول على جوائز وتتويجات. لكن ما ميز القطاع السينمائي خلال هذا العام هو توصل عديد الكفاءات الشبابية التي دخلت الوسط في السنوات الأخيرة لتفرض نسقها من خلال تقديم أعمال متميزة على غرار وليد الدغسني ونزار السعيدي ووفاء الطبوبي وغيرهم. "هزات" واحتجاجات كما شكلت مسألة الاحتجاجات والتحركات والانتقادات الموجهة لسياسة وخيارات وزير الشؤون الثقافية محمد زين العابدين النقطة المميزة للمشهد الثقافي في سنة 2017. ويكفي التذكير في هذا الباب بما رافق استقالة الدكتورة أمال موسى من إدارة مهرجان قرطاج الدولي وتحركات أعوان وإطارات قطاع التراث أو الإضراب الوطني للعاملين في المؤسسات الثقافية في منتصف شهر نوفمبر الماضي بسبب الاتفاقيات القطاعية المعلقة. وقد ارتفع نسق الاحتجاجات في الأشهر الأخيرة بدوافع وأسباب مختلفة لعل أبرزها ما "اندلع بعنوان رفض "الإلحاقات" بالوزارة أو ضد سياسة التمييز السلبي تجاه "الثقافي" في صلب المؤسسات والهياكل التابعة لنفس الوزارة، من قبل أبناء الحقل الثقافي بالأساس ونشطاء المجتمع المدني خلال شهري أكتوبر ونوفمبر. إضافة إلى تحرك البعض الآخر ضد المديرة العامة للمكتبة الوطنية رجاء بن سلامة بسبب قبول احتضان المكتبة الوطنية معرض صور خاص ب"الهولكوست" عنوانه "لدولة المخادعة: السلطة والدعاية النازية" على اعتبار انه تبييض للصهيونية ودعوة للتطبيع فضلا عن الحركة الاحتجاجية التي نفذها مثقفون وناشطون في المجتمع المدني ضد عرض ميشال بوجناح في مهرجان قرطاج الدولي رافضين مشاركته في هذه التظاهرة الكبرى على اعتبار أنه مع "التطبيع" مع العدو الإسرائيلي. وسبقت هذه الحادثة أيضا "المعركة" التي "اشتعلت" نيرانها بين مديرة الإدارة العامة للكتاب والمطالعة السابقة هالة وردي من ناحية واتحاد الناشرين من ناحية ثانية ووزارة الشؤون الثقافية من ناحية أخرى، رغم ما رافق عملية تعيينها وخياراتها في مستوى الإدارة من انتقادات لوزير الشؤون الثقافية، لتكون حادثة إقالة مدير عام المركز الثقافي الدولي بالحمامات معز مرابط وما رافق تبرير الوزير لقراره ذاك من ردود أفعال وتداعيات. "الثقافي" ضحية الأزمات! كان وقع وتأثير الأزمات المتكررة التي عرفتها البلاد عامة والساحة الثقافية بصفة خاصة في مجرى هذا العام وفي السنوات التي سبقته على المنجز الثقافي بصفة خاصة والمشهد بشكل عام كبيرا واضحا على نحو بدا "الثقافي" هشا وغير قادر على الصمود والمواجهة. ولعل أبرزها الأزمة الاقتصادية التي تعرفها بلادنا في السنوات الأخيرة وتداعياتها على مستوى المعيشة الذي ارتفع مقابل تراجع قيمة الدينار التونسي خاصة في ظل "هشاشة" مجال الإبداع والفنون في تونس وعدم وجود تقاليد الاستثمار في الثقافة والفنون وإقبال ومراهنة المستثمرين على دعم والاستثمار في الفنون. الأمر الذي أثر سلبيا على عجلة الإنتاج في السينما والمسرح والموسيقى بشكل خاص باعتبارها مجالات إبداع مرهونة للإمكانيات المالية الكبيرة. مما جعل البعض يلجأ لبحث دعم جهات أجنبية وتقديم وصياغة مشاريع بمقاييس ما يتطلبونه أو يشجعون على دعمه. قوانين تحققت وأخرى معلقة ورغم المبادرات العديدة التي قدمها أهل الثقافة في سنوات ما بعد الثورة في سياق الإصلاح وإعادة تنظيم ومأسسة القطاعات الثقافية إلا أن عديد هذه المبادرات ومشاريع القوانين التي دفع نحوها أغلب الوزراء الذين تقلدوا مناصب على رأس وزارة الثقافة بتعاقب الحكومات التي عرفتها دولتنا في السنوات الأخيرة، ظلت عالقة. ولعل أهم مكسب تحقق في الإطار يتمثل في "تعاونية الفنانين والمبدعين والتقنيين في المجال الثقافي" التي دخلت حيز العمل منذ شهر سبتمبر الماضي وذلك بعد أن تمت المصادقة على النظام الأساسي الخاص بها. وهو ما رحب به أهل الثقافة عامة نظرا لدورها في ضمان الحقوق الاجتماعية للفنانين والمبدعين التقنيين في المجال الثقافي من العرضيين الذين لا يتمتعون بنظام التغطية الاجتماعية. وتهدف هذه التعاونية إلى تفعيل نظام التأمين الصحي لأعضائها ولأفراد عائلاتهم في حالات المرض فضلاً عن تغطية نفقات حالات الولادة والوفاة وتقديم إعانات اجتماعية ومساعدات استثنائية في حالات الأمراض المزمنة أو الإصابات الحادة. كما تُعنى التعاونية بتنظيم وتنفيذ أنشطة ترفيهية وثقافية لأعضائها وأفراد عائلاتهم. فيما لا يزال مشروع القانون المتعلق بالفنان والمهن الفنية معلقا رغم أنه جاهز ومعروض على رئاسة الحكومة منذ أكثر من عام. كما هو الشأن تقريبا لبقية المطالب التي تتضمنها الاتفاقيات القطاعية العالقة منذ سنوات خاصة منها المطالب المطروحة على مكاتب وزارة الشؤون الثقافية ورئاسة الحكومة ولم يحسم بعد فيها.