لئن استحسن البعض عودة النشاط والحراك المسجل في الوسط الفني في تونس في المرحلة الأخيرة خاصة بعد الجفاء والركود المسجل في سنوات ما بعد ثورة 14 جانفي، فإن عددا آخر من الفنانين عبروا عن استيائهم الشديد من الارتباط الوثيق بين هذه الحركية والنشاط مع ظهور بعض الأسماء والجهات ممن أجمعوا على تسميتهم "بالسماسرة" و"العرابنية" وسيطرتهم على المشهد الفني وتوجيههم للذائقة الفنية وذلك من خلال تحكمهم في "السوق" من ناحية وتحريك دواليب هذه الحركية والعمل على أكثر من صعيد بفرض أسماء وأنماط فنية بقطع النظر عن القيمة والمستوى. وقد وصل الأمر إلى حد تبادل الاتهامات والتعبئة ضد "ثقافة احتكار السوق" من قبل البعض مقابل تواصل بطالة بعض الأسماء الأخرى التي لم تقبل الانخراط في مثل هذه المنظومة. وقد اختلفت الآراء والمواقف ووجهات النظر حول هذه المسألة خاصة أن لكل مبرراته. لا للاحتكار عبر بعض الفنانين عن رفضهم لظاهرة احتكار أسماء دون غيرها لسوق العمل والنشاط بالنسبة للموسيقيين والفنانين على اعتبار أن المشهد تم احتكاره من قبل عدد محدد من الأسماء التي تحسب على أصابع اليد الواحدة. مما جعل الخيارات نمطية من حيث التوجهات ولا تعكس المستوى والتنوع الذي تزخر به الساحة الفنية في تونس. لأن في توسع قائمة "متعهدي الحفلات" الناشطين على مدار العام من شأنه أن يخلق آفاقا أرحب للعمل ويشجع على الإبداع وسط مناخ تنافسي يمكن أن يعود بالفائدة على القطاع ككل. لكن البعض يعتبر أن الوضعية الحالية التي أصبحت تتحكم في واقع ووقع الأغنية والفنان التونسيين، صعّب مهمة البعض وغلق مجال العمل أمام فئة من الفنانين والموسيقيين ممن يرفضون الانخراط في تكريس ثقافة "الشو" أو ما وصفوه ب"التهريج" بعيدا عن المقاييس الإبداعية والطربية. وقالت في نفس السياق الفنانة وفاء بوكيل: "أعترف أنني خارج السرب ولي شروطي وطقوسي التي لا أحيد عنها في مسيرتي الفنية والتي أحرص على الالتزام بها خاصة في السنوات الأخيرة من بينها رفض الغناء في الكباريهات أو بعض الفضاءات المشابهة لها". وأكدت في المقابل أن سيطرة بعض من وصفتهم "بالمافيات" على المشهد الفني بشكل خاص والثقافي بشكل عام سواء في المهرجانات أو الحفلات الخاصة أو الحضور في المنوعات والمساحات التلفزية وغيرها، من العوامل التي أثرت سلبيا على واقع الأغنية والموسيقى التونسية. وعللت ذلك بقولها: "من سوء الحظ أن مثل هذه العصابات أصبحت تتحكم في تاريخ الفن في تونس وتكرس أنماطا وتقاليد من شانها أن تضر بصورة وواقع الفن في بلادنا نظرا لدورها في التأثير على الذوق العام وتوجيهه خاصة أن نفس الجهات تعمل على تغييب أبرز الأسماء ومن ورائها الأعمال والموسيقى التونسية الحقيقية". وهو تقريبا نفس الموقف الذي عبر عنه الفنان عماد عزيز خاصة أنه اختار منذ مدة شن حملة على مثل هذه الممارسات عبر شبكات التواصل الاجتماعي لأنه يعتبر أن الساحة الفنية التونسية تزخر بالكفاءات في مختلف الاختصاصات ذات العلاقة بالموسيقى والأغنية وأن مثل هذه الممارسات الاحتكارية تضر بالذوق والمشهد العام باعتبار أنها غير قادرة على استيعاب مثل تلك الكفاءات أو التسويق لها على النحو المطلوب. "الربحي" أولا فئة أخرى من الفنانين، رفضت الإفصاح عن أسمائها، ترى أن الغايات التجارية والأهداف الربحية البحتة هي المتحكم الأول في السوق الفنية في تونس اليوم في ظل غياب كامل لسلطة الإشراف أو الهياكل والقوانين المنظمة لسير القطاع الموسيقي في هذه المرحلة تحديدا. الأمر الذي دفع الجهات المحركة لهذه السوق إلى المراهنة على "التجاري" بغاية الربح السريع سواء تعلق الأمر بالخيارات المتعلقة بالفنانين التونسيين أو العرب. لتنحصر الاختيارات في دائرة ضيقة كان "الإبداع" والطربي والفن التونسي الأصيل مغيبا منها. شق آخر من الفنانين لم يرفضوا الطرق التي أصبحت تتحكم في المشهد الفني في تونس وتحتكر "النفوذ" فيه ومداخل ومعابر الفنانين للجمهور، بل انتقدوا "مقاييس" اختيارهم لأنماط وأشكال لا تنسحب على كل الفنانين ولا تعكس في شكلها وأبعادها وتفاصيلها واقع الأغنية التونسية وما يزخر به القطاع من كفاءات في مختلف المجالات ذات العلاقة بالميدان. رغم تأكيد هؤلاء على أن الجمهور التونسي منفتح في ذوقه على مختلف الأنماط ويقبل على الطربي والأغنية التونسية والفلكلور كما يقبل على كل الأنماط والألوان الفنية الأخرى وليس بالضرورة أن تختزل بعض الأسماء المشهد دون سواها بتعلة أن الجمهور يفضلها ولا يقبل على عروض غيرها. خاصة في ظل الفراغ المسجل في الساحة وعدم توفر خارطة طريق قانونية أو هيكلية تنظم العمل في القطاع الموسيقي بصفة خاصة وارتباط الحركية والعمل والنشاط بمواسم المهرجانات والأعراس. النقابة تدعم "الظواهر الصحية" في تنظيم القطاع كاتب عام النقابة التونسية للمهن الفنية مقداد السهيلي اعتبر مثل هذه الظواهر "صحية" في الوسط الموسيقي نظرا للدور الذي لعبته في تنظيم النشاط في ظل الفوضى وغياب القوانين المنظمة لعمل الفنان خاصة في هذه المرحلة وقال في نفس السياق: "أنا بصفتي النقابية والفنية مع تنظيم القطاع وبعيدا عن الدعاية أو التشهير بما يقوم به بعض متعهدي الحفلات على غرار رياض بودينار الذي يرجع له الفضل في تنظيم حضور الفنان في الأعراس وهيثم الهاني وسامي الزغلامي من دور في التنظيم أعتبره من الإيجابيات التي أعادت الاعتبار للموسيقيين بدرجة أولى خاصة أن هؤلاء من أبناء القطاع وليسوا من الدخلاء على الميدان". واعتبر في مطالبه المتكررة بضرورة دخول المؤسسات التلفزية العمومية منها أو الخاصة في شراكة مع النقابة التونسية للمهن الموسيقية من أجل تنظيم مسألة حضور الفنان التونسي من التحركات التي تهدف إلى مقاومة الابتذال وفسح المجال للفنانين الحقيقيين من خلال الالتجاء إلى مستشارين موسيقيين يتم الرجوع إليهم في حضور المنوعات والبرامج والمساحات التلفزية أو في بث الأغاني في الإذاعات. نزيهة الغضباني