تربت الأجيال على فكرة أن الفنان يدافع عن القيم الإنسانية ويترفع عن الانتماءات الحزبية الضيقة لأن حزبه الوحيد هو جمهوره وفنه، غير أن الوضع بدأ يتغير على ما يبدو مع تغيير العقليات فقد أصبح الفنانون لا ينضمون فقط إلى الأحزاب السياسية بل يعلنون عن ذلك في مواكب رسمية وينشرون الخبر على المواقع الإخبارية. لكن وحتى وإن اختار بعض الفنانين الانضمام إلى أحزاب سياسية فإن السؤال مازال يطرح هل من حق الفنان أن يتحزّب؟ ربما قانونيا، لا شيء يمنع الفنان عن الانضمام إلى حزب سياسي ولا شيء يمنعه من أن يناضل في صفوفه وأن يكون له نفس الحقوق داخل الحزب ومن بينها الترشح لمناصب سياسية لأن الأحزاب كما هو معروف غايتها السلطة والحكم. لكن القضية تطرح على المستوى الأخلاقي، فمن المفروض أن الفن قيمة سامية تتوجه إلى كل البشر وتخاطب وجدانهم والفن لا يمكن أن يخاطب الوجدان دون أن يكون صادقا وأصيلا. فهل يمكن للفنان أن يحافظ على براءته في عيون الجمهور وهو يدافع عن أفكار حزبية؟ وهل يمكن له أن يحافظ على صورته في أعين جمهوره وأن يواصل في أداء دوره كناشر للفرح عبر الفن والإبداع وهو يدافع عن خيارات سياسية قد لا تكون أحيانا صائبة أو أن يروج لأفكار سياسية قد لا تكون على درجة من الصدق التي نتصورها؟ والحقيقة، إنه يصعب أن نسلم بتحزب الفنان حتى وإن كان الوضع في تونس لا يترك للمواطن الخيار أحيانا. فالكل يخشى اليوم إن لم ينضم لحزب سياسي أو لأي حركة سياسية أو نقابية أن يجد نفسه على الهامش أو أن يضيع وسط الزحام. فالكل تقريبا يسعى للتموقع وللظهور في المشهد العام حتى نخال أننا نعيش اليوم حربا للتموقع تستعمل فيها مختلف أنواع الأسلحة.. ومع ذلك نصر على طرح السؤال بشكل آخر ونقول: هل ما هو متاح لعامة الناس متاح للفنان، ثم ألا يكون الفن هو آخر القلاع التي يمكن أن تتحصن بها المجتمعات وتلوذ بها حتى لا يقع تفقير الحياة من معانيها وجعلها مرتبطة بقانون العرض والطلب لا غير، وحتى لا تتحول القيمة الأساسية هي المال والنفوذ؟ ولنا أن نشير في خضم هذه التساؤلات إلى أن الفنانين والمثقفين عموما لم يكونوا عبر التاريخ بعيدا عن الحياة السياسية بل عادة ما يطالب الفنان بأن يشارك في النقاش العام وأن تكون له مقترحات يساهم بها في معالجة الإشكاليات المطروحة على الشعوب والمجتمعات لكن دون أن يكونوا مضطرين للقيام بدور سياسي مباشر أو ينخرطوا في أحزاب سياسية. وما نعرفه أن الفنان والمثقف عادة ما يحبذ النشاط في الجمعيات والمنظمات الوطنية لأن النضال ضمن المجتمع المدني لا يحول دون الاستقلالية والحياد كما يتيح الفرصة للفنان وللمثقف عموما للخروج من تقوقعه للمشاركة في الحياة العامة بالبلاد. ثم إن أسهم الفنان عادة ما ترتفع عندما يكون له نشاط مدني أو عمل خيري لأن مثل هذه الأعمال ليس لها مردود مادي في حين أن التحزب يعني عادة انتظار مكافأة مادامت غاية الأحزاب الأساسية هي الوصول إلى السلطة. تجربة تونسية قابلة للقياس عليها؟ والسؤال إزاء ذلك، إن كانت الظروف الاستثنائية التي عاشتها تونس خاصة في السنوات الأولى التي تلت الثورة تبرر إلى حد ما عدم تردد بعض المثقفين والفنانين في الانضمام إلى أحزاب سياسية رغم أن بعضهم لم تدم تجربته الحزبية طويلا ونذكر من بينهم بعض المثقفين الذين ناضلوا في حزب نداء تونس مثلا وساهموا حتى في تأسيسه وفي تحرير ميثاقه العام، فهل مازالت نفس المبررات صالحة اليوم وهل يمكن تفهم الرغبة البارزة لدى بعض الفنانين بالخصوص في خوض تجربة العمل الحزبي؟ ولنا أن ننبه إلى أن الأزمة التي عاشتها تونس خلال حكم "الترويكا" (اثر انتخابات 2011 التي تلت الثورة) والتي كانت فيها البلاد منقسمة على أسس دينية وإيديولوجية وكانت الأوضاع الاقتصادية صعبة جدا جعلت بعض الفنانين والمثقفين يعتبرون أن الانخراط في حركة نداء تونس التي عرضت نفسها في بدايتها على أنها المنقذ للبلاد، قد يكون ضرورة للمساهمة في صياغة أفكار من شأنها أن تساعد البلاد على الخروج من المآزق التي تواجهها. كان حينها الانضمام إلى حركة سياسية وسطية معتدلة ومدافعة عن القيم التونسية (القيم الحداثية من إيمان بالمساواة بين الجنسين والانفتاح على الخارج واحترام الأديان والعقائد وحقوق الإنسان) عبارة عن فعل محمود وهو لا يقل قيمة عن أنواع النضال الأخرى من أجل الاستقلال أو من أجل الحرية والتعددية، هذا على الأقل في عرف من نظّروا للأمر من هذه الزاوية. لكن هل أثمرت العملية نتائج ايجابية وهل لاحظنا مثلا أفكارا جديدة وهل أفرزت تجديدا على مستوى الحياة السياسية وخروجا عن القوالب الجاهزة والسائد والمعروف في عالم السياسة حتى يمكن القياس عليها؟ ذلك هو السؤال الذي نعتقد أننا مدعوون لمحاولة الإجابة عليه عله يكون مفيدا للراغبين من أهل الفن والثقافة من اقتحام مغامرة التحزب، إن كان هدفهم بطبيعة الحال المساهمة في خدمة البلاد وليس أمورا أخرى.... حياة السايب