النفاق حالة مرضية عادية تستوجب التشخيص والمعالجة؟ ام هي حالة مرضية مزمنة ميؤوس من علاجها، يستوجب تقبلها والتعايش معها الى ما لا نهاية؟ هذا السؤال طرحه الكاتب حافظ الحاج قاسم في كتابه الصادر مؤخرا تحت عنوان"المنافقون في الأرض: نفاق الكل للكل – القرآن منطلقا –" وهو كتابه الثاني اذ سبق له ان اصدر كتاب»ثنائية الليل والنهار- القرآن منطلقا-. وقد اراد من خلال كتابه هذا ان يعاد النظر في ظاهرة النفاق كسلوك بشري متشعب قصد الخروج به من طور المسكوت عنه والمشهر به الى طور العلن، ومن طور الدفن في الاعماق الى طور السطح على امل ان يصبح الحديث عن النفاق صريحا وان يتم البحث عن اسبابه وتناوله بالبحث والتمحيص. عرف الكاتب النّفاق فقال انه مزيج من الكذب والمراوغة والخداع والسفه والفساد وازدواجية الخطاب والتناقض والتحيّل وهو ايضا مزيج من السلوكيات والتصرفات والمواقف تعرض لها القرآن ولم يخل منها زمان ولا مكان، وظاهرة النفاق، ظلت صامدة منتشرة وربما منتعشة في بعض الحالات والكل يسقط في فخها لان النفاق يسري عند الانسان سريان الدم في العروق يمارسه في الخفاء ويتنكر له في الظاهر، يسمح به لنفسه ويذمه عند غيره. وتساءل حافظ الحاج قاسم عما يسند النفاق حتى يفلت من صرامة الواعز الاخلاقي ويتخذ لنفسه مكانة في حياة الافراد وكذلك في حياة الشعوب. هذا النفاق خاض صراعات كثيرة عبر العصور كان اولها صراعه مع الاخلاق الدينية ثم اقتحم الحياة العملية وتفشى بين الناس العاديين ورجال السياسة ورجال الدين وحتى عند الاصدقاء وأفراد العائلة وبين الدول. والنفاق حسب ما اورده الكاتب اقوى من الكذب والسفه والخداع والتحيّل لأنه جمع بينها واختزلها وأصبح يحتل صدارة التعامل بين الافراد وبين المجموعات وبين الدول. قسم الكاتب كتابه الى خمسة ابواب تناول في الاول موضوع" "النفاق كما ورد في القران" و"النفاق الاكبر والنفاق الأصغر و الحد بينهما" و"مواقف سلبية ازاء النفاق" و"النفاق الاصغر شر لا بد منه". وخصّص الباب الثاني ل"صناعة النفاق سواء عبر الكلمات والمفاهيم" او"من خلال مفهوم الديمقراطية" او "من خلال مفهوم الوطنية" ومفهوم كلمة تنمية"وكذلك"النفاق من خلال حقوق الانسان»والنفاق من خلال المال». وفي الباب الثالث تناول موضوع "من النفاق عبر الكلمة الى النفاق عبر الخطاب" و"النفاق عبر الخطاب السياسي" و"النفاق عبر الخطاب الديني" و"النفاق عبر الخطاب الاقتصادي" و"النفاق عبر الخطاب الإعلامي"و"النفاق عبر الخطاب التاريخي". وتحدث في الباب الرابع عن"النظام العالمي للنفاق" وعن "النفاق على مستوى الدولة الواحدة"و"النفاق بين الدول". وخصّص الجزء الاخير ل"تحول النفاق من العام الى الخاص"وختم بالحديث عن"ملامح شخصية المواطن العربي ومن بينها،» الشخصيات الاردنية والسعودية والمغربية والجزائرية والليبية واللبنانية والسورية والإماراتية والعمانية والبحرينية والموريتانية والسودانية والصومالية والكويتية والمصرية والتونسية. هل يمكن ممارسة المهادنة دون نفاق؟ وفي حديثه عن الشخصية التونسية استند الى كتابات كل من الدكتور منصف وناس كاتب"الشخصية التونسية: محاولة في فهم الشخصية العربية" والى دراسات استاذ علم الاجتماع الدكتور محمود الذوادي. حيث رأى د.منصف وناس ان الشخصية القاعدية التونسية تأثرت بالاستبداد والقمع اللذان عرفتهما تونس على امتداد 56 سنة مما عمق انطواءها على الذات وعدم قدرتها على المواجهة وعدم رغبتها في الفعل مما شكل شخصية مفرطة في الواقعية والمهادنة وغير حريصة على المواجهة تلتف على الظواهر وتفضل ان تحتسب الامور بكيفية تضمن لها المكاسب وتجنبها الخسائر وأضاف الكاتب في الصفحة 106:»... ومن مظاهر الواقيعية القصوى في شخصية التونسي انها لا ترى غضاضة في مسايرة الفساد الاجتماعي بكل صنوفه شريطة ان يؤدي ذلك الى مكاسب مادية ومعنوية وحتى مهنية. وليس ادل على ذلك من انه لا مانع عند التونسي من استعمال الوساطة والمحسوبية والمعطى الجهوي والقرابي". اما الدكتور محمود الذوادي فقد اقترح مفهوم الاستنفار لفهم شخصية التونسي وقال ان شخصية التونسي مستنفرة السلوك في تعاملها مع الغريب او"الآخر" او "البراني" ينقصها حافز التعاطف والتقارب مع التونسي الآخر. وتتصف عموما بالحذر والتوتر والخوف ومعروف عن التونسي سرعة لجوئه الى العنف اللفظي والجسدي. والاستنفار ينفي هنا عن شخصية التونسي الكذب والنفاق وهو ما علق عليه حافظ الحاج قاسم بتحرج الدكتور محمود الذوادي ازاء تسمية الاشياء بمسمياتها... وعدم الاتفاق على شخصية التونسي حسب ما ورد في هذا الكتاب يجعلنا نتساءل الى اي مدى يمكن ان نعتبر ما ورد عن الشخصيات العربية المذكورة في الكتاب خاصة اذا اخدنا بعين الاعتبار تأثير المعطى الجغرافي والتاريخي عليها صحيح او حتى قريب من الواقع؟ ختم حافظ الحاج قاسم كتابه بالتأكيد على ان النفاق مصدره الوحيد هو الانسان باختلاف مكانه وزمانه وتنوع انتمائه الاجتماعي والثقافي والسياسي وقال في الصفحة 111:"الانسان هو الذي ينتج النفاق ويطوره بما يساير عصره. وهو الذي يعطيه الصيغة الذاتية التي تميزه وتحدد ملامح شخصيته". وأضاف الكاتب ان النفاق يزداد غموضا بسبب الخلط بين النفاق الديني والنفاق الدنيوي والفصل بينهما يعتبر خطوة هامة وفاصلة في اتجاه التحرر من قبضة التكفير، والتخلص من فكرة العقاب التي لا يكفلها النص القرآني ولا مبرر لها. وتساءل الكاتب عما اذا كان للنفاق دور في تشكيل الشخصية القاعدية؟ وهل هو دور ايجابي او سلبي او هو دور تعديلي بالأساس وحالة وسطى تعطي للشخصية امكانية الكر والفر الكذب والصدق؟ واستنتج الكاتب واقرّ بصفة وقتية ان النفاق هو ذاك الصراع الصامت الذي يخوضه الفرد لتغليب الصدق على النفاق وكبح جماح هذا الاخير حتى لا يطفو على السطح ..وأضاف في الصفحة 112:"صراع لا نعرف مدى قوة الوعي الفردي والجماعي.. وفي حالة عدم التوازن بينهما، هل يمكن القول بأنها حالة مرضية عادية تستوجب التشخيص والمعالجة؟ ام هي حالة مرضية مزمنة ميؤوس من علاجها، يستوجب تقبلها والتعايش معها الى ما لا نهاية.