أنهت قناة الحوار التونسي بث مسلسل «تاج الحاضرة» وشرعت في النصف الثاني من رمضان في إعادة بثه والمسلسل من النوع التاريخي وهو من اخراج سامي الفهري(صاحب القناة) وتأليف رضا قحام وشارك فيه طاقم تمثيلي يتكون من أبرز الاسماء الشابة التي ساهم سامي الفهري في اطلاقها في السنوات الأخيرة من خلال تشريكها في أغلب المسلسلات التي أنتجتها قناته. كما شاركت في المسلسل أسماء كثيرا ما نشاهدها في أعمال سامي الفهري على غرار وحيدة الدريدي وفتحي المسلماني ورؤوف بن عمر وجميعهم موجودون في مسلسل»تاج الحاضرة.» ومن بين الأسماء التي أطلقها الفهري نذكر أحمد الاندلسي في دور الوزير خزندار (حكومة أحمد باي) وياسين ين قمرة في دور المصلح الشهير خير الدين باشا ومريم بن مامي احدى نساء العائلة الحسينية المالكة وأحد النماذج المعبرة عن ثقافة هذه العائلة وفق ما يتداول حول سيرة البايات وسلوكهم، ونجلاء بن عبد الله شقيقتها في المسلسل والعديد من الوجوه الأخرى المألوفة على غرار أميمة بن حفصية ومريم بن حسين ومحمد قريع إلخ... تدور أحداث المسلسل حول فترة حكم البايات وتحديدا فترة أحمد باي الذي حكم تونس في النصف الأول من القرن التاسع عشر وعرفت فترة حكمه محاولات إصلاحية شملت بالخصوص تعصير الجيش، لكنها كانت مكلفة وأرهقت خزينة الدولة الأمر الذي هيأ لانتفاضات شعبية عرفتها البلاد فيما بعد لعلّ أبرزها ثورة علي بن غذاهم في الستينات من القرن التاسع عشر. وقد وجبت الإشارة إلى انه من المرّات القليلة جدا التي يشاهد فيها الجمهور التونسي عملا تمثيليا تلفزيونيا بهذه النوعية يهتم بفترة من تاريخ تونس. فقد تم مثلا تجسيم حكايات العروي في التلفزيون ومن بينها حكايات تدور أحداثها في عهد البايات لكنها تبقى أعمال بسيطة كاريكاتورية أحيانا لبساطتها وقلة الإمكانيات التي وضعت على ذمتها. تجربة مجددة ولكن... وفي هذا الباب يختلف مسلسل تاج الحاضرة كثيرا حيث نجح العمل على مستوى الديكور الذي استحضر نمط حياة العائلة الحسينية بالتوازي مع تقديم فكرة عن نمط حياة البعض من التونسيين البسطاء لا سيما بتونسالمدينة. كما أن عملية توزيع الأدوار كانت متقنة مما ساعد الممثلين على التقمص الجيد للشخصيات وكان الآداء في أغلب الأحيان مقنعا. يعج المسلسل بالألوان (ملابس وديكورات ) وبالوجوه المضيئة وقد عاد بالذاكرة إلى فترة من تاريخ تونس كان فيها المجتمع طبقيا وكانت الطبقة الأرستقراطية وعلى رأسها الطبقة المالكة تعيش في عالم مغلق لا تتسرب منه إلا بعض الأخبار التي تبقى دائما في حاجة إلى التأكيد. ويبدو أن قصور البايات وعائلاتهم لم تكن تختلف كثيرا عن القصور الشرقية التي كانت منغلقة على أسرارها وعلى نسائها في الحرملك في حين أن رائحة الدسائس والمؤامرات والتنافس بين النساء (سيدات وجواري) على الحظوة لدى البايات ولدى الشخصيات المهمّة والفاعلة في الدولة تفوح من بين جدران هذه القصور وتؤكد أن حياة القصور ليست بالصورة الوردية التي تتصورها عامة الناس. إذن، الأمور بالأحرى جيدة على مستوى الآداء وعلى مستوى الديكور، حتى وإن شعرنا أحيانا أن الغرف والبيوت والأثاث تستعمل كديكور بأتم معنى الكلمة أي طريقة توظيفها واستعمالها لا تحسس المشاهد بوجود حياة حقيقية في هذه الديكورات، لكن على مستوى المونتاج وتواتر المشاهد لم تكن الأمور موفقة جدا. كانت هناك لخبطة على مستوى الأحداث وغموض كبير وتقطع في مستوى سرد الأحداث رغم أن العمل تاريخي ويحتاج إلى نوع من التسلسل في ترتيب الأحداث. من ذلك مثلا أن الحلقة الأولى من المسلسل ركزت على عسكر «زواوة»وكانت الأحداث توحي بامكانية قيام انتفاضة بينهم، لكن سرعان ما تم طي الصفحة وتغيرت الأحداث ولم تتم العودة إلى الموضوع إلا لمّا عبر الباي في مناسبات قليلة عن ندمه عن التعامل القاسي مع بعض العساكر الغاضبين في احدى الثكنات العسكرية بالعاصمة، حتى أن المشاهد ينسى تماما أن المسلسل تعرض لقضية عسكر زواوة الذي يتكون من ابناء الشعب رغم أهمية القضية. ظهور سطحي للباي وتقزيم لشخصية خير الدين وإذا ما اتفقنا أن العمل تاريخي وفق ما تمت الإشارة إليه لدى تقديمه مع بعض الإضافات للضرورة الدرامية فإننا وقفنا على الملاحظات التالي: أولا، كان ظهور الباي ظهورا سطحيا واختزل في مشاهد مع جاريته أو وهو هارب من مرض الكوليرا بعيدا عن قصره وكانت تدخلاته لا تمكّن من تكوين فكرة واضحة حول شخصية الباي في وقت توقعنا أن يقع الاجتهاد من أجل تقريب هذه الشخصية من المشاهد بإيجابياتها وسلبياتها لا سيما في ظل وجود شبه تعتيم حول تاريخ البايات واكتفاء كتب التاريخ في تونس ببعض المعلومات غير الدقيقة حول العائلة الحسينية. ثانيا، ظهور زوجة الباي(تقمصت الدور مريم بن حسين) أيضا كان سطحيا رغم أنها في كل اطلالة لها كانت تظهر شحنات عاطفية قوية(حقد وحنق بالخصوص على الباي) مما يعني أنها كانت قادرة على التأثير بشكل أكبر في الأحداث. ثالثا، تقزيم دور المصلح خير الدين باشا وهو وفق الروايات التاريخية من الشخصيات المهمة جدا في تاريخ تونس وحياته كانت مليئة بالأحداث الحاسمة وكان من الممكن أن يقع منح الشخصية مساحة أكبر تلائم حجمها ومكانتها في التاريخ التونسي الحديث. رابعا، تركيز الكاميرا على شخصية الشاب محمد القاسم(ابن الفريك بن عصمان وشقيقة «باي الأمحال»(ولي العرش) لم يكن مفهوما ولا مبررا لأن الشخصية لم يصدر عنها ما من شأنه أن يشير إلى أنها كانت فاعلة أكثر من غيرها في المسلسل أو أن الاحداث مرتبطة بها ونفس الشيء بالنسبة لعشيقته الخادمة عربية التي ظهرت في كل الحلقات تقريبا في مساحة واسعة وتابعت الكاميرا كل حركاتها وسكناتها مقابل التعتيم على شخصيات أخرى كان من الممكن من خلال موقعها في المجتمع أو تأثيرها في الأحداث أن تكون أكثر أهمية... والمتابع للمسلسل يلاحظ أنه تم بناء الأحداث وتركيزها على حكاية فرعية وقصة ثانوية في حين أننا كنا نتوقع أن يكون هذا المسلسل فرصة هامة للتعريف بفترة تاريخية مهمة من تاريخ تونس بأسلوب جدي لا سيما بعد أن وضع أصحاب العمل المسلسل في إطاره ونزّلوه في سياق الأعمال التاريخية. لكن الحقيقة، وحتى وإن كنّا إزاء تجربة جديدة فيها بعض التجديد وفيها محاولة لاقتحام مجالات كانت من قبل شبه محرمة على كتاب الدراما ومؤلفي المسلسلات، فإن ذلك لا يمنع من القول أن العمل كان متوسط جدا وترك جمهور المشاهدين على عطشهم فيما يتعلق بسيرورة الأحداث. ربما هناك جزء ثان للعمل، لأن منطق الاشياء يقول ذلك لأن الحلقات التي تم بثها من المسلسل كانت غير كافية وبدت فيها الأحداث مبتورة وأعاقت الشخصيات عن الظهور في كامل حقيقتها أو تجليها، ونتوقع بناء على ذلك أو على الأرجح نتمنى أن لا يركز الجزء الجديد من العمل على حواشي التاريخ وأن يتوغل في عمق الحدث التاريخي. فذلك جوهر الدراما التاريخية على ما نعتقد.