أعادت العملية الإرهابية التي نفذتها أول أمس فتاة وسط العاصمة الجدل والنقاش في عدة ملفات وقضايا عادة ما تطرح وتفرض نفسها وقت الشدائد والأزمات مثل الخطط والاستعدادات الأمنية في مقاومة الإرهاب، الخطط الاتصالية للتعامل مع الإعلام والرأي العام وقت الأزمات، أسباب ومسببات انتشار الفكر الإرهابي ومسؤولية الدولة والحكومة والأحزاب والسياسيين والبرلمان في التصدي لها.. وغيرها من المواضيع الدسمة التي يكاد لا ينتهي النقاش في شأنها، لكن هناك دائما موضوع يُثار في مثل هذه الحالات منذ سنة 2013 وطرح للنقاش عند حدوث عمل إرهابي أو سقوط ضحايا من الأمنيين نتيجة اعتداء مماثل ويتعلق بمشروع قانون حماية الأمنيين المودع لدى البرلمان منذ أكثر من خمس سنوات دون أن يتمكن من المصادقة عليه لعدة أسباب من أهمها انه يتعارض بشكل صارخ مع الحريات ويحيد عن هدفه الأساسي وهو حماية الأمنيين. أعيد إذن طرح الموضوع من قبل ممثلين عن نقابات أمنية (وهو أمر عادي باعتبار أن حماية القوات الحاملة للسلاح من أو كد مطالب الشرعية للأمنيين ولا ينازعهم فيها أحد)، وأيضا من قبل رئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر، حين دعا - في تصريح له أول أمس- إلى التسريع في المصادقة على مشروع القانون المتعلق بزجر الاعتداءات على الأمنيين. وجاءت دعوة الناصر في سياق تعبيره عن تضامنه مع أعوان الأمن الذين أصيبوا خلال العملية الإرهابية التي جدت بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة. لكن لسائل أن يسأل: لماذا لم يتم استكمال مناقشة مشروع القانون المثير للجدل وتعديله والمصادقة عليه إن كان فعلا يهدف إلى حماية الأمنيين، ولماذا يعاد طرحه في مثل هذه المناسبات وهو الذي أعيد وضعه على الرفوف منذ قرابة السنة بعد فشل مناقشته باللجنة البرلمانية المختصة؟، وما هو السر وراء تكاتف المجتمع المدني وراء الرفض القاطع لمرور مشروع القانون المذكور بصيغته الحالية؟ بالعودة إلى آخر جلسة ناقشت فيها لجنة مشروع القانون كان ذلك بتاريخ 8 و9 نوفمبر 2017 دفع ممثلو منظمات المجتمع المدني بعدم دستورية مشروع القانون وطالبوا بسحبه أو إعادة صياغته بما لا يتعارض مع الحقوق والحريات.. علما ان مناقشة المشروع تمت بالتزامن مع تنظيم أمنيين وقفات احتجاجية أمام البرلمان للمطالبة بالمصادقة على مشروع القانون الذي أعيد النظر فيه بضغط قوي من النقابات الأمنية لكن أيضا من السلطة التنفيذية ووزارة الداخلية إثر الاعتداء الإرهابي الذي طال عوني أمن قرب مجلس النواب وراح ضحيتها أمني المرور رياض بروطة يوم 01 نوفمبر 2017. وقبلها جريمة الاعتداء على الأمني مجدي جدلاوي في سيدي بوزيد حين تم احترق في سيارته يوم 23 جوان 2017.. وكان رئيس الدولة الباجي قائد السبسي قد أعرب حينها عن انشغاله بضرورة التسريع بإقرار نص القانون. عود على بدء تقريبا تتشابه الحيثيات والمسببات والدوافع والضغوطات في كل حادث او اعتداء إرهابي، ويتم في كل مرة طرح نفس مشروع القانون دون تعديل أو نقصان ودون بذل العناء لتقديم مشاريع أفضل تكون فعلا هادفة إلى حماية الأمنيين ولا تساوي في أحكامها ونصوصها بين الإرهابي والمواطن العادي، ولا تطرح مشكلة مع الحريات والحقوق وخاصة مع حرية التعبير والإعلام وحق النفاذ إلى المعلومة.. وقد تعوّد الرأي العام الوطني خلال السنوات الأخيرة ومنذ اقتراح مشروع القانون على مطالبة الأمنيين بسن قانون يحميهم من الاعتداءات وخاصة في كل مرة يقع حادث اعتداء مباشر على أمنيين أثناء القيام بواجبهم.. لكن مشروع القانون لا يكفل حماية الأمنيين من الاعتداءات بقدر ما يوفر تضييقات على الحريات فضلا عن أنه لا يحظى بالإجماع ورفض من أحزاب وسياسيين ونخب ومجتمع مدني.. فجانب كبير من الفصول التي وردت بمشروع القانون تتعارض مع أحكام الدستور خاصة تلك المتعلقة بضمان الحقوق الأساسية والحريات مثل حرية التظاهر وحرية التعبير والإعلام وحق المواطن في المعلومة. علما أن قوانين عديدة موجودة تنص على ضرورة حماية الأمنيين من الاعتداءات مثل قانون سنة 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال، أو تحفظ حق الأمنيين في التعويض المادي والصحي مثل قانون عدد 50 لسنة 2013 مؤرخ في 19 ديسمبر 2013 المتعلق بضبط نظام خاص للتعويض عن الأضرار الناتجة لأعوان قوات الأمن الداخلي عن حوادث الشغل والأمراض المهنية. في حين أن قوانين أخرى قديمة تحتاج فعلا إلى المراجعة والتنقيح مثل قانون عدد 4 لسنة 1969 الذي تطالب بتنقيحه النقابات الأمنية منذ سنوات بسبب نقائصه العديدة فهو لا يوفّر الحماية لا للمواطن ولا لعون الأمن الذي يطبّقه.. أو الإطار القانوني المنظم لحالة الطوارئ الذي يستند إلى أمر قديم وهو الأمر عدد 50 لسنة 1978 رغم وجود مقترح قانون للطوارئ مودع بالبرلمان منذ سنة 2015.. عقوبات مشددة وقمع للحريات عرض مشروع قانون تجريم الاعتداءات على قوات الأمن ومقراتهم على المجلس الوطني التأسيسي، ثم إحالته على اللجنة دون تمريره للجلسة العامة بسبب معارضة واسعة من المجتمع المدني وعدد من المسؤولين السياسيين. لكن في شهر أفريل 2015 أعيد طرح نفس مشروع القانون من قبل وزارة الداخلية وحظي بالموافقة اثر استشهاد أربعة من أعوان الحرس الوطني بجبل الشعانبي إثر كمين نصبته الخلية الإرهابية عقبة بن نافع في 18 فيفري 2015، وخاصة بعد الهجوم الإرهابي على متحف باردو الذي خلّف 23 قتيلا، من بينهم عون أمن من وحدة مكافحة الإرهاب، لكن منظمات المجتمع المدني نددت بالمشروع رغم ضغط النقابات الأمنية من أجل تمريره والمصادقة عليه. والدليل على أن مشروع القانون يصعب تمريره والمصادقة عليه بسبب غياب الإجماع حوله خاصة من أحزاب سياسية وبرلمانيين ومجتمع مدني، اعتراف رئيس مجلس نواب الشعب محمد الناصر في تلك الفترة ( في جوان 2017) إلى التصريح بأن مشروع القانون لن يمر في صيغته الأصلية بل سيتم إدخال تعديلات ضرورية عليه تكفل احترامه الحقوق والحريات الأساسية التي نص عليها دستور تونس الجديد.. وفعلا تم سحب مشروع القانون للتعديل والمراجعة. وما يؤكد ان مشروع القانون لا يمكن ان يمر دون نقاش او تعديل، وأن مكتب مجلس النواب اقتنع بخطورة الأحكام المقترحة فيه، تصريح محمد الناصر في شهر نوفمبر من سنة 2017 بأنه سيتم «عقد ندوة مع منظمات المجتمع المدني لدراسة مقترحاتهم بخصوص مشروع القانون قصد الوصول الى صيغة توفق بين حماية رجال الأمن وحماية حقوق الإنسان..». في الواقع، وبالتمعن في أحكامه، يدرك المرء دون عناء أن مشروع القانون يمهد لعودة أشكال جديدة من القمع والتعدي على الحريات وهذا حقيقة يجمع عليها كل من اطلع عليه. فهو يتضمن عقوبات مشددة بالسجن وغرامات مالية متنوعة ذكرت في جل فصوله ( حوالي 14 من جملة 20 فصلا تتحدث عن المنع والزجر والعقوبات..) في حين أن الفصول التي تتحدث عن الحماية الاجتماعية والشغلية والتعويض على الأضرار البدنية والمعنوية تكاد تكون منعدمة باستثناء فصل وحيد وهو الفصل 17 الذي يتحدث عن «تكفل الدولة بجبر الأضرار المادية اللاحقة بمحل سكنى عون بمحتوياته أو بوسيلة تنقله، نتيجة الاعتداء وتحل الدولة محله في المطالبة باسترجاع قيمة التعويضات من مرتكب الاعتداء». حق الأمنيين والعسكريين والقوات الحاملة للسلاح بمختلف أسلاكها ثابت وشرعي في الحماية القانونية من الاعتداءات الإجرامية او الإرهابية سواء كانت فردية منعزلة او جماعية منظمة.. لكن الأحكام التي وردت في مشروع القانون ليس لها علاقة مباشرة بحماية الأمنيين بشهادة خبراء وسياسيين وجامعيين ونشطاء بالمجتمع المدني بل هو يمنح سلطات جديدة لوزارة الداخلية بالتضييق على الإعلاميين والمواطنين في الحق في المعلومة والتظاهر وحرية التعبير وتغطية التظاهرات والأحداث الأمنية. ويعود رفض المجتمع المدني والأحزاب ومنظمات الوطنية للنسخة الأصلية لمشروع القانون بسبب إمكانية انحرافه عن الغايات الرئيسية من وضعه، حيث انتقل الموضوع من محاولة وضع حد للفوضى والتسيب بعقاب الاعتداءات الواقعة على حاملي السلاح ومقراتهم وتجهيزاتهم وعائلاتهم إلى محاولة لبسط السيطرة المطلقة للأجهزة الأمنية والعسكرية على المحيط العام وعلى تداول المعلومة وبالتالي على الحريات ومن بينها حرية الصحافة بدعوى منع الاعتداء على أسرار الأمن الوطني خاصة صلب الباب الثاني من المشروع. يذكر أن نقابة الصحفيين التونسيين كانت من أولى المنظمات التي عبرت عن رفضها القطعي لمشروع القانون المتعلق بزجر الاعتداء على الأمنيين ودعت الى سحبه، واعتبرته مشروعا مناقضا في اغلب فصوله لروح الدستور ومعادى لحرية الصحافة وحرية التعبير. وانتقدت مشروع القانون لتضمنه أحكاما «تؤسس لدولة ديكتاتورية بوليسية» من خلال عودة العقوبات السالبة للحرية في مجال الصحافة التي تصل الى عشر سنوات سجنا بتهم فضفاضة مثل كشف أسرار الأمن الوطني، وغياب التنصيص على حقوق الصحفيين والتضييق على النشر بالتراخيص المسبقة، وضرب حرية التعبير من خلال تجريم حق التظاهر وتشديد العقوبات على القائمين بذلك باسم تعطيل السير العادي للعمل.