لا تعترضك في تونس العاصمة أو حتى في بعض المدن الأخرى محلات كثيرة لبيع «الأنتيكا»، فعددها يُعدّ على الأصابع، لكن في المقابل أضحت هذه التجارة واسعة الانتشار على صفحات الانترنات ومواقع التواصل الاجتماعي دون حسيب أو رقيب. فمن غير المستبعد أن تجد عرضا لبيع قطع نقدية يعود تاريخها إلى أواخر القرن التاسع عشر كما كُتب، ولما أيضا لا تجد عرضا لبيع طاحونة قديمة «الجاروشة» (كما تسمى) عبر صفحة من صفحات التواصل الاجتماعي. هذه «الجاروشة» التي لا يخلو منها بيت في السابق يُقدّر سعرها اليوم إلى ما يزيد عن ألف دينار وغيرها كثير، كالساعات اليدوية والحائطية والبحرية التي تعود إلى العشرية الأولى من القرن الماضي ووصل سعرها في إحدى الصفحات على الأنترنت إلى 50 ألف دينار. في سؤالنا عن القانون المنظّم لهذا القطاع وعن كيفية توريد الانتيكا، تبيّن أنه لا وجود لقانون محدّد لهذه النوعية من التجارة، والبعض من السلع تخضع إلى الموافقة القبلية لوزارة الثقافة إذا ما تمّ التفطن إلى قيمتها التاريخية وإذا ما كانت هناك مراقبة. لكن في المقابل تساءلنا إن كان هناك إقبال على هذه التجارة؟ وهل يهتمّ التونسيون بكلّ ما هو «أنتيكا»، وهل هي مجرّد تجارة بلا روح أم أنها تتجاوز المسائل المادية؟ الطاهر الخبير تاجر في عقده الستين، يعمل في مجال الأنتيكا والمنتوجات القديمة منذ أربعين سنة، مهنة أحبّها منذ الطفولة كما تحدّث ل «الصباح الأسبوعي»، كان يجمع الأشياء القديمة بمختلف أحجامها من أثاث وحليّ وتحف يمكن توصيفها بالثمينة وأيضا ذات الطابع «الأثري» بما أنّها تعود إلى عقود من الزمن. فبعض التحف وبعض الأثاث يبلغ عمرها أكثر من 100 سنة أي قرن من الزمن. البعض الآخر من التحف والمقتنيات يعود إلى الثلاثينات والخمسينات من القرن الماضي. في جولة دامت أكثر من نصف ساعة بمحلّه الكائن بالمدينة العربي بالعاصمة، تستوقفك العديد من الأشياء من تحف ولباس تقليدي وحليّ وسيوف البعض منها صُنع بالأساس من اللوح والبعض الآخر من الفضة ومواد أولوية أخرى يصعب على مستكشف بعيد عن هذا المجال أن يفقه في نوعها أو تاريخها، فقط شكلها وتصميمها يوحي بأنّها من «الأنتيكا». الكثير من التحف تحمل بين تفاصيلها بعضا من عبق الماضي إما في شكلها أو في زخرفتها أو في طريقة نحتها كالساعات الحائطية أو الساعات المنبهة أو أيضا الأواني المصنوعة من الفخار كالجرة وغيرها الكثير. يقول الطاهر الخبير إنّه لا يوجد اهتمام معيّن بنوع من الأنتيكا على حساب نوع آخر، «القديم كلّه يُباع ويُشترى وفق اهتمام الحرفاء ووفق «غرام» المقبل على هذه النوعية من المشتريات، فهناك من لا يقتني إلا ما صُنع من النحاس، وهناك من لا يشتري إلا ما هو مصنوع من القماش أو الخشب، وهناك من يستهويه كلّ ما هو قديم أو كما نقول كلّ ما هو أنتيكا إما للتزويق أو لجمعها من باب الهواية أو أيضا لإعادة بيعها». بعض من مقتنيات الأنتيكا الموجودة بالمحلّ الذي زرناه حافظت على لونها الأصلي، حتى أن البعض منها بقيت بها أثار «الصديد» فلا تغيير في لونها ولا في شكلها، فيبقى للشاري حريّة التصرف والتهذيب والتغيير. يوضح صاحب المحلّ في حديثه ل»الصباح الأسبوعي» أنّه لا توجد أسواق متخصصة في الانتيكا في تونس فهو إمّا يذهب بنفسه لجمعها من بعض الأماكن أو يأتي إليه الناس لبيع ممتلكاتهم من الطراز القديم أو هناك باعة متجولون يبيعون الأنتيكا. وعن مدى اهتمام التونسيين بالانتيكا قال الطاهر الخبير إنّ «العديد من التونسيين يفهمون ويهتمون ويميلون لكلّ ما هو أنتيكا ولا توجد أشياء تباع أكثر من أخرى ولكن يبقى اقتناؤها من الكماليات لا من الأولويات ويبقى اقتناؤها رهين المترفهين ماديا» كما وصفهم. هذه المهنة «لا تموت» ولن تندثر، وفق قوله، ولكن ازدهارها مرتبط باقتصاد البلاد فهو الذي يُحدّد العرض والطلب ومدى الإقبال على هذه النوعية من المشتريات. في محل ثان وعلى بعد أمتار قليلة من المحلّ الأول، استوقفتني المعروضات من الانتيكا، واستوقفني أكثر مشهد لطفل صحبة والده يُناقش مع صاحب المحل قيمة المعروض من الأنتيكا. الطفل لا يتجاوز سنه الثانية عشر، كان يتفحص، في الوقت الذي كان هناك حوار بين صاحب المحل ووالده، آلة نفخ نحاسية صغيرة الحجم، لم يهدأ باله ولم يتركها من يديه إلا عندما أصدرت صوتا موسيقيا. وكما كان متوقعا فالطفل شديد «الغرام» بالأنتيكا يُصاحب والده «بديع» في جولاته بين المحلات لبيع ما توفّر لديه من الأنتيكا وهو أيضا يمتلك محلاّ بجهة حلق الواد وفق حديثه المقتضب معنا باعتباره كان على عجل من أمره. عبد الحفيظ صاحب المحلّ الثاني الذي زرناه بالمدينة العربي، لم يرغب في بادئ الأمر في الحديث عن تجارته ولا عن محلّه، فتناول موضوع الأنتيكا والحديث عنه للصحافة كهواية تستهوي العديد من التونسيين والسياح أضحى موضوع مملا بالنسبة إليه. فمُحدثنا أراد أن يخرج بالموضوع عن هذه الزاوية، فالمسألة تتجاوز بالنسبة إليه الهواية و»الغرام» والقديم والانتيكا والإقبال من عدمه، إلى ما هو أعمق من الشراء والبيع وهو «حسّ الوطنية والمواطنة» مع الأنتيكا. بحسرة شديدة ولكن بنظرة أعمق وأكثر استشرافا لمستقبل «الأنتيكا» تحدّث عبد الحفيظ وتساءل في الآن نفسه عن دور وزارة الثقافة في حفظ كلّ ما هو أنتيكا وتراث وكل ما هو قديم. لا دور يُذكر بالنسبة إليه. هنا استحضرت زيارتي إلى المتاحف المنتشرة بتركيا، وأيضا متحفا كنت قد زرته بواشنطن بالولايات المتحدةالأمريكية حُفظت به ذاكرة لعبة «البازبول»، في متحف شاسع جدّا. فشاهدت أول حذاء رياضي يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر، ووضعت أيضا أول كرة بازبول ليؤثث هذا المتحف المسيرة التاريخية لهذه الرياضة عبر الصور والأقمصة الرياضية والمضارب بمختلف أحجامها وأشكالها فيُسجل يوميا زيارة الآلاف من السياح والزوار من مختلف الجنسيات. عن مثل هذه المتاحف تحدّث عبد الحفيظ فقد كان يرغب أن يكون حريفه الأول وزارة الثقافة التي كان من المفترض أن تقتني منه ومن كلّ من يٌتاجر بهذا المجال من أجل إحداث متاحف صغيرة تحفظ الذاكرة الوطنية بأبسط الأشياء لقيمتها التاريخية. هذه المهنة هي هواية ورثها أبا عن جدّ كما تحدّث عبد الحفيظ ل»الصباح الأسبوعي» لكن بدايتها كانت من «بطاقة بريدية» كانت مُلصقة على إحدى الواجهات البلورية لأحد المحلاّت، بطاقة كانت تختزل بكل بساطة طريقة ومراحل صنع الزربية التونسية، هي البطاقة البريدية بدورها كانت قطعة من الأنتيكا. بالنسبة لمحدّثنا جمع الأنتيكا وبيعها يتجاوز مسألة العرض والطلب والربح والخسارة إلى الإحساس بروح القطعة «الأنتيكا» أو القديمة والوقوف عند أدق تفاصيلها التي قد تجعلك تغوص إلى حدّ ما في عبق الماضي. تحسّر عبد الحفيظ على هذا القطاع قائلا «القائمون على القطاع الثقافي غير واعين بقيمته، فكان من المفترض أن يكون هناك تكاملا بين وزارة الثقافة وبين تجار الأنتيكا لأهمية هذا الميدان الثريّ في تاريخه». وأضاف «كان بالإمكان خلق علاقة ثنائية بين التاجر في الانتيكا وبين هيكل يتخصص في هذا المجال، فعوضا عن بيع الانتيكا في محلّ كمحلي كان من الممكن الاتصال بهذا الهيكل لأبيعه كل ما أقتنيه من منتوجات لحفظها ومن ثّمة جمعها في متاحف صغيرة بالمسالك السياحية المعتادة والموجودة والمهيأة منذ سنوات، ما يعني توفير أموال طائلة من السياحة ومن العملة الصعبة تُعطي أكلها في ما بعد للأجيال القادمة». إيمان عبد اللطيف