لاتزال كلمة رئيس التحرير الصادرة بتاريخ 30 جوان المنقضي تثير ردود أفعال عدة إذ الى جانب عديد المكالمات الهاتفية بلغنا من عمادة الأطباء ومن طبيب مختص ردّان ننشرهما في إطار حق الردّ وفتح باب الحوار لمن يريد التطرّق لهذه المسألة من عموم الناس. ردّ عمادة الاطباء ورد في ركن «كلمة» الصفحة الثانية من الصباح الأسبوعي لعدد يوم الإثنين 30 جوان 2008 مقال تحت عنوان «رسالة إلى طبيب مختصّ»، واسمحوا لنا بعرض توضيحات حوله نراها ضروريّة لإنارة الرأي العام حول دور الطبيب في منظومة المجتمع النامي بشكل عام وببلادنا بشكل خاص. نشير في البداية إلى أنّ مهنة الطبّ ببلادنا شهدت تطوّرات إيجابيّة ملحوظة وخاصة على امتداد العقدين الأخيرين في مستوى العناية بالتكوين في الإختصاص، والمهارة المشهود بها اليوم عالميا في الممارسة إلى حدّ استقبال الحرفاء من البلدان المجاورة ومن عديد البلدان الأوروبيّة أيضا، ووفّر ذلك إيرادات هامة بالعملة الصعبة جعلت هذه المهنة تندرج بشكل صريح في الدورة الإقتصادية الوطنيّة وصار بذلك القطاع مثمرا ومنخرطا في التنمية الشاملة. أمّا في ما يتعلّق بالوضع المادي للطبيب والذي يبيح - حسب ما ورد بالمقال - باقتناء السيارة الفاخرة والتمتّع بعطل آخر السنة المتميّزة بالداخل والخارج إلى جانب إمكانيّة تدريس الأبناء بالكليّات الأجنبية..، فإنّه لا بدّ من إنارة الرأي العام بأنّ هذه المعطيات لا تخصّ إلاّ عددا قليلا من الأطباء كما هو الحال مع غيرهم من رجال الأعمال وغيرهم من الميسورين، أمّا غالبيّة الأطباء التونسيين المباشرين (أي بنسبة 80 بالمائة تقريبا) فقد أثبتت الدراسات المختصّة والإحصائيّات المدقّقة أنهم يعيشون وضعا لا يختلف عن وضع الإطار «المتوسّط» ببلادنا، وأنهم منخرطون في مشروع بناء مجتمع سليم يمثّل السند الرئيسي لمجتمع المعرفة الذي نتوق جميعا إلى تحقيقه. أمّا الإشارة في المقال إلى صندوق التأمين على المرض والمطالب المتعلّقة بالأتعاب فإن المسألة تستوجب في نظرنا توضيحا نؤكّد من خلاله أنّ شروط ممارسة مهنة الطب تخضع بالأساس إلى هياكل مختصّة تنظّم المهنة في مجالات تخصّ الأخلاقيات والوصفات والعلاج،... ولا يمكن أن يتعطّل عمل الهياكل المشرفة في الغرض لإحالة جزء من هذه المهام على هياكل تنظيميّة أخرى. إن الطبيب المباشر لمهنته ببلادنا ينتمي إلى منظومة اجتماعية يعيش واقعها ويطمح إلى تطوير مكوّناتنا حتّى نرتقي بوطننا لتحقيق التقدّم المنشود، وتبعا لذلك فهو يسهم كغيره من التونسيين في نظام الجباية، ويتمتّع مقابل ذلك كغيره من المواطنين بما توفّره الدولة من تجهيزات في البنية الأساسية حتّى يطيب العيش لنا جميعا. أما الإشارة في المقال المذكور إلى فشل فرض الوصفات الطبيّة المرقمة منذ ثلاثة عقود، فكنّا نظنّ أنّ هذا التصوّر قد ولّى من الزمن القديم، وأنّنا وضعنا أسسا جديدة للمهنة تسمح بالانخراط في المشروع الحضاري الذي نؤمّل جميعا تحقيقه، ويمثّل الأطباّء فيه عنصرا وطنيّا واعيا بمسؤوليّاته ويسعى إلى التشاور والتحاور ليكون القطاع في خدمة الصالح العام، ونذكّر في هذا السياق بأنّ ما يزيد على 50 بالمائة من الأطبّاء المباشرين ببلادنا يعملون كامل الوقت بالمراكز الاستشفائيّة ويخضعون تبعا لذلك لمنظومة الجباية المتداولة بالوظيفة العموميّة، ويؤدّون واجبهم المهني بحرفيّة عالية. إنّنا رمنا تقديم هذه التوضيحات وهي تثبت أنّ الطبيب اليوم على درجة كبيرة من الوعي بدوره في منظومة المجتمع النامي حتّى يسهم من موقعه في العناية بقطاع الصحّة لكي نكسب التحديّات الكبرى التي تواجهنا، وحتّى نفتح السبل السليمة والصحيحة للتنمية في الداخل والإشعاع على الخارج في آن واحد. عن المجلس الوطني لعمادة الأطباء الرئيس تعقيبنا نشكر عمادة الاطباء على هذا الردّ الهادىء لكن نلفت انتباهها الى أن افتتاحيتي لم تكن موجهة الى كل الأطباء بل الى طبيب مختص خاطبته بضمير المفرد بما يعني انتفاء صبغة التعميم فالمعني بهذه الافتتاحية هم فئة صنفّتموها في ردّكم آنف الذكر.. كما أني لم أقل إن الطبيب يقضي عطلة نهاية السنة بالخارج ويدرّس أبناءه بالكليّات الاجنبية بل قلت بصريح العبارة «أنا يا سيدي لا أخفي أموالا نقدا في الخزائن ولا أستثمرها في الاتجار بزيت الزيتون او في اقتناء الأراضي البيضاء ولا أقضّي العطل في الساحل اللازوردي ولا أدرّس أبنائي في كليّات أجنبية لسبب بسيط هو أن مرتبي لا يكفي وثلثه يذهب للجباية ولا أقدر على إخفاء ما أتقاضاه لأنّ الجباية في بلدي عادلة فقط إذا ما تعلق الامر بالموظفين والعمال أما في بقية المهن الحرّة فتصبح عدالة الغراب التي تحدث عنها لافونتان». أما عن المشروع الحضاري فأي مشروع حضاري يفرض على المواطن تسديد ربع مرتبه لمعالجة نزلة برد لسبب بسيط هو أن الطبيب يرفض التعامل مباشرة مع الكنام ويفرض على حريفه تسديد الأتعاب مباشرة له ثم يقع استخلاص من الكنام ما يستخلصه أطباء الدول المتقدمة مباشرة من صناديق التأمين على المرض في بلدانهم.. فهل أولائك أطباء صنف ثاني او ثالث وان كانوا كذلك فلماذا نرسل لهم مرضانا كلّما عجزنا عن علاجهم محليا؟ ختاما نأمل ان تتحرّك العمادة التي غيّبت تماما عن المفاوضات الأخيرة وتتدخل ان سمحوا لها بذلك للوقوف إلى جانب الحق والعدالة كما عهدناها في السابق رسالة هادئة الى صحافي متشنّج عملا بحق الردّ فإنني أتقدم الى قراء جريدة الاسبوعي بهذا التعقيب السريع على مقالة السيد حافظ الغريبي في العدد الفارط «رسالة الى طبيب مختص». حضرة الصحافي أريد في البداية ان اعلمك ان اختياري لمهنة الطب هو اختيار واع لعلاقة متميزة وشريفة بيني وبين المرض وهذا ما ندرسه في كليّاتنا الطبية وما نعمل به يوميا دون ملل او كلل طبقا لمجلة واجبات الطبيب ولقسم المهنة. إننا نسعى الى تخفيف الام الناس ولا نعيش على آلامهم كما تفضلت به في مقالك، ونحن نكون أسعد الناس إذا شفي أحد المرضى على أيدينا والشفاء كما تعلم هو بيد الله من قبل ذلك ومن بعد. سيّدي الصحافي نحن الأطباء جزء من هذا الشعب ومن هذا الوطن نقوم بواجبنا ولا نريد جزاء ولا شكورا من أحد نحن ثمرة طيبة لمسار طويل وشاق من التعليم نتكبّد فيه الويلات والتضحيات لمدة تناهز ربع قرن، ونحن مفخرة لتونس بحكم سمعة ومستوى الطب فيها، فهل تأبى علينا وطنيتك ان نتمتع بثمار جهدنا وتعبنا طيلة هذه السنين ويكون لنا طموحا مشروعا في تحسين وضعنا المادي والاجتماعي دون الضرر بأحد؟ حضرة الصحافي نحن سعدنا كما سعدت ايضا بقرار بعث صندوق التأمين على المرض واعتبرنا ذلك مكسبا وطنيا للجميع وجب المحافظة عليه عن طريق التوافق ولكن اعتراضنا الأساسي لم يكن ماديّا كما زعمت بل إننا لم نطلب الترفيع في الأتعاب التعاقدية من 25 دينار الى 30 دينار، وإنما كانت مطالبنا أعمق من ذلك فنحن نريد الحفاظ على حرياتنا المهنية واستقلاليتنا الإدارية حتى لا يصبح العمل الطبي في القطاع الخاص وظيفة إدارية عند الكنام وحتى تستمتع انت وجميع المواطنين بمستوى راق للخدمات الصحيّة لا تكون عليها رقابة الا من ضمائرنا وشرف وقدسية مجلة واجبات الطبيب. نحن طالبنا ولا نزال بحرية المضمون الاجتماعي في اختيار طبيبه المختص او العام دون حواجز ودون وسائط متى شاء وأينما كان. كما أننا مازلنا مصرّين على وضع أتعابنا من طرف العمادة والهياكل النقابية الطبية في إطار القانون الجاري به العمل وتمسكنا برسم أتعابنا في حدود 25 دينار الى 35 دينار لعيادة الطبيب المختص كل حسب جهته وتكلفة الممارسة الطبيّة فيها (كراء، أثاث، كاتبة..) مع التأكيد على الدفع المباشر لها من طرف المريض في إطار مبدإ استرجاع المصاريف. كما تمسكنا بقدسية الوصفة الطبية وعدم المساس بها من أي جهة كانت معتبرين ذلك عقد ثقة بيننا وبين المرضى وأي مسعى لفرض استعمال الدواء الجنيس الأرخص ثمنا سيصيب في المقتل خدماتنا الصحية الراقية ويتدحرج بها الى الوراء. ومن جهة أخرى، اعتبرنا أن الممارسة الطبية في القطاع الخاص لابد ان تترك الإختيار للطبيب المختص التعاقد مع الصندوق او لا من دون معاقبة المرضى الذين يتوجهون الى الأطباء الغير متعاقدين مع الصندوق وذلك بحرمانهم من استرجاع مصاريف العيادات والأدوية والتحاليل والكشوفات فضلا عن العمليات الجراحية. ونحن نعلم جميعا أن هؤلاء المضمونين سيتم اقتطاع 6,75 في المائة من أجورهم شهريا لفائدة تمويل الصندوق. سيدي الصحافي إنني أنتهز هذه الفرصة حتى أقول لك إنني من هذا الشعب الطيّب وإليه أنتمى وسأخدمه بكل أمانة وشرف حتى أحافظ على المكانة المرموقة لمهنتنا في تونسنا العزيزة علينا كلنا كما أدعو جميع العاملين في قطاع الصحافة الى تحرّي الدّقة وأمانة الخبر عند التعاطي مع قطاع الأطباء دون تشويه او تعميم لأن أي إضرار بسمعة الأطباء ستكون نتائجه عكسية على علاقة الثقة القائمة بين الطبيب ومريضه. الدكتور محمد كمال الغربي تعقيب حضرة الدكتور لقد كتب الزملاء بما أسال أنهارا من الحبر ولم يتقدّم من الأطباء من صحّح أو احتجّ بما يعني أن ما كتب لم يكن غير نقل الحقائق وبالتالي كان دقيقا وأمينا. نأتي الآن لردكم الذي جاء رفقة ردّين آخرين لزميلين لك ليمثل قطرة من فيض مكالمات ورسائل فاكسات ورسائل إلكترونية جاءتنا من عموم الناس بسطاء او مثقفين ليساندوا ما قلناه لا تقرّبا مني وتملّقا إليّ فأنا لا أمثّل لديهم شيئا ولا يعرفون عني شيئا غير ما أخطّه كل أسبوع إن أعجبهم شدّوا على يديّ وإن أغضبهم أشبعوني سبّا وإلى حدّ الآن والحمد لله لم أكتب إلاّ ما يمليه عليّ ضميري وما يرضي عموم الناس مع اعتقادي أن ارضاء الجميع غاية لا تتحقّق على الاقل صحفيا. سيدي الدكتور أعرف أنك ابن هذا الشعب وأنك تعيش من آلامه وليس على آلامه والفرق واضح كما تعيش مهن من آلام ومصائب الناس وليس في ذلك عيب وإلاّ لما وجدنا من يدفن الموتي اللذين لم ينجح الطب في ابقائهم على قيد الحياة وقس على هذا المثال. سيدي الدكتور أنا وأمثالي نعرف والناس جميعا يعرفون ان اسطوانة الاستقلالية المشروخة التي سمعناها منذ عقود لا تعدو أن تكون إلاّ تعلّة لحجب الحقيقة التي لم تعد تخفى على أحد.. فيا حبذا لو يقبل طبيب ممن يقودون جبهة الرفض هذه أن تعوّض كاتبته شهرا واحدا بمراقب جبائي وسيكون الأجر مدفوعا من الدولة حتى لا نثقل كاهله بمصاريف إضافية. ختاما أقول لك سيدي الدكتور إن كان كشفك الطبي عني ومن خلال ما كتبته انتهى إلى أنّي متشنج وإذا أقررت بهذا الكشف المجاني المشكور عنه فاعلم سيدي الدكتور (الهاديء) أني سأظلّ كذلك طالما لم تنخرط في الكنام لأني لن أقبل بتسديد أتعابك (غير القابلة للخصم) من مرتبي الذي تقتطع منه الدولة أداءات لسبب بسيط هو أنه لا أقدر على دفع 5% من مرتبي مقابل فحص. رئيس التحرير حافظ الغريبي