تتميز بعض الدوريات التي لا تحتكم إلى منطق السوق والمنافسة بمساحة كبيرة من حيث حرية انتقاء المواضيع.و غالبا ما نقع في هذه النشريات على نصوص نادرة أو أغفلتها الدوريات الاخرى التي ربما تقدر أنها لا تستجيب لانتظارات القارئ. وقد صدر في المجلة الفصلية الناطقة بلسان جمعية قدماء تلامذة المدرسة الصادقية بالعاصمة مؤخرا نصا هاما قد يكون من المفيد أن نقف عنده وأن نؤكد على الفائدة التي تحصل لمتصفح هذا المقال. و للتذكير فإن العدد المعني بالامرمن المجلة الصادقية (جوان) يحمل رقم 48 وتتكون المجلة الصادقية التي يديرها الاستاذ فؤاد المبزع وهو أيضا رئيس الجمعية ويتولى الاستاذ عبد الوهاب الدخلي رئاسة التحرير. وهي مجلة تصدر باللغتين العربية والفرنسية وتتولى إلى جانب اصدار المقالات التي تتعلق بقضايا تاريخية وحضارية واجتماعية إلخ... الاحاطة بنشاط أعضاء الجمعية وقدماء الصادقية الذين يشغلون العديد من الوظائف الادارية والسياسية بالبلاد. ملجأ المتصوفة وقبلة الزهاد بالنسبة للمقال الذي استوقفنا والذي يحمل امضاء الاستاذ حسن حسني عبد الوهاب فقد ورد بالفرنسية. وقد تناول بالاهتمام تاريخ قرية سيدي بوسعيد. وإذ يبدو لنا للوهلة الاولى أن سيدي بوسعيد لم تعد تخفي سرا عن الناس نظرا لشهرتها بين أبناء البلاد والسياح على حد سواء فإن هذا المقال يحتفظ بأهميته كاملة نظرا لما يحمله من دقة في المعلومات إضافة إلى أسلوبه المليح الذي يحيط هذا التاريخ من كل جانب دون أن يأخذ طابع المقال التاريخي صعب الهضم خاصة بالنسبة للقارئ هذه الايام. مع ذلك فإن المقال نشر وفق ما تمت الاشارة له في المجلة الصادقية بتاريخ أوت سنة 1964 بالعدد الاول لمجلة المرأة. وهوما يعطي فكرة دقيقة حول صاحب المقال وعبقريته في الكتابة. وإن كنا لا نضيف شيئا عندما نقول ذلك فالكاتب معروف والشهادات حول عبقريته تكاد لا تنضب. بالاضافة إلى الوصف الجغرافي الدقيق لقرية سيدي بوسعيد وخاصة لمنارتها عاد بنا الكاتب إلى الاصل. حيث تستمد المنطقة سمعتها الكبيرة على ما يبدو من العهد القرطاجني. فقد كانت حسب ما ورد في المقال مكانا للنخبة وتعيش به الطبقات الارستقراطية. وقد عرفت بالطبع قرية سيدي بوسعيد تحولات كبرى في تاريخها. ويجب أن ننتظر إلى حدود القرن التاسع ميلادي وتحديدا خلال العهد الاغلبي ليقع تشييد الحصن المحيط بالقرية وبناء ما أسماه صاحب المقال برباط جبل المنار...و ما يثير الانتباه في هذا النص الكم من المعلومات الخاص بعدد أولياء الله أو الصلاح الذين اتخذوا من هضبة سيدي بوسعيد ملجأ لممارسة العبادات والعزلة عن الناس. هكذا يأخذنا الكاتب إلى تاريخ تسمية الهضبة: سيدي بوسعيد. الامر يتعلق بالعالم الصوفي الكبير أبو سعيد خلف ابن يحيى تميمي (سيدي بوسعيد) الذي عاش فيما بين 1115م و1232م. وينحدر الولي الصالح الذي بنى الحسينيون فوق مدفنه جامع وحوله محراب وقبة من منطقة باجة. ويوضح أن الامر لا يتعلق بمدينة باجة التي تقع بالشمال الغربي بتونس وإنما يتعلق بقرية صغيرة اندثرت اليوم ولكن موقعها لازال موجودا وكانت تحمل اسم باجة القديمة وتقع بالقرب من منوبةبتونس. وقد كان الشيخ أبو سعيد يحيى خلف قد تتلمذ على يد الشيخ عبد العزيز المهداوي وعلى غرار الطلبة الذين تلقوا علمهم عن الرجل عمل على نشر هذا العلم من بعده. ففي الوقت استقل فيه الشيخ عبد العزيزمثلا برباط المرسى استقل أبو سعيد في رباط الهضبة التي اتخذت اسمه فيما بعد. وقد استعرض الكاتب نخبة من المتصوفة والزاهدين الذين استقروا بالهضبة أو ترددوا عليها على غرار الشيخ محرز ابن خلف (سيدي محرز) قبل أن يستقر بالعاصمة. والشيخ محمد الظريف (سيدي الظريف). وشدد الكاتب على السمعة الطيبة التي كانت تتمتع بها قرية سيدي بوسعيد بين الناس في العهد الوسيط وحتى العهد الحديث حتى أن عددا من العلماء والقضاة وكبار الشخصيات من مختلف الامارات والعهود: الحفصيون والمراديون والحسينيون كانوا يوصون بدفن جثامينهم في مقبرة القرية حتى يكونوا إلى جوار الاولياء والصلاح. بعد البناءات المتواضعة البيوت الفخمة والقصور ومرت قرية سيدي بوسعيد بعدة تحولات على المستوى الاجتماعي. لم تكن خلال القرن الثامن عشر أكثر من قرية بسيطة ببناءاتها المتواضعة ثم بدأت تقبل عليها البورجوازية التونسية شيئا فشيئا حيث أقاموا منازل جميلة خاصة بفصل الصيف. وقد استعرض الكاتب عددا من هذه العائلات التونسية مشيرا إلى أن قرية سيدي بوسعيد سرعان ما أصبحت المكان المفضل للبورجوازية والارستقراطية التونسية وحتى الجاليات الاجنبية التي وقعت في سحر القرية وشيدت بها قصورا لعل أشهرها قصر البارون ديرلنجي. وقدم الكاتب من خلال الكلمات رسما جميلا للقرية تقريبا بالصورة التي يعرفها عنها الناس اليوم بمقاهيها ومنازلها ذات البياض الناصع في تضاد واضح مع زرقة البحر والطريق المؤدية لها المرصعة بالدكاكين ذات الاختصاصات العديدة والهضبة المطلة على البحر الابيض المتوسط والتي توفر مشهدا طبيعيا رائعا يمكن الواحد من نظرة واحدة من الاحاطة بكامل خليج تونس. استعرض كذلك بعض العادات والتقاليد التي منها ما يزال قائما وخاصة الخرجة التي تنطلق من محراب سيدي بوسعيد بطقوسها وبالاعداد الكبيرة من الناس التي تشارك فيها وهي تكملة لخرجة سيدي بلحسن بالعاصمة. وانتهى الكاتب بالتذكير بالسحر الذي كانت ولازالت سيدي بوسعيد تمارسه على الفنانين وعلى من أسماهم بأصحاب الذوق مشيرا إلى أن هذه الاجواء ليست بعيدة عن تذكير بعض الزوار بالبوسفور. دون شك فإن سحر سيدي بوسعيد لم يفتر مع مرور العقود من الزمن.الاقبال ما فتئ يكبر وهو ما يجعل المقال الذي بين أيدينا يبدو حيا كأنه كتب بالامس فقط.