فوز باراك أوباما لم يكن فقط متوقعاً، بل كان منظوراً ومنتظراً، لا لأسباب راجعة أصلاً الى شخصية منافسه السياسية ولا إلى تراجع شعبية الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه ذلك المنافس، وإن نأى بنفسه عنه قبل الانتخابات وسجل خروجه عن خطه العام. ولكن لأن الأزمات الامريكية تلاحقت حتى لم يعد للفرد العادي الأمريكي مجال لاحتمال التصويت لأي مرشح يكون من طينة السياسيين التقليديين الذين عرفهم، والذين ساهم كل واحد منهم بقدر ما في جرّ البلاد إلى شفا الهاوية. فكان ينبغي أن تجد أمريكا في شاب أسمر كأنما خرج إليها من بطن الغيب، مليئاً بالحيوية والجاذبية، من أصل إفريقي، ومن البلد نفسه الذي شهد أعنف تفجير منذر في السفارة الامريكية (1998)، ومن أب مسلم ، وباسم الحسين، من نفس تلك الأسماء ومن نفس تلك الديانة التي فجّر أصحابها البرجين العملاقين للإقتصاد العالمي في نيويوك.. قلت أن تجد في هذا الشاب المبشّر بالتغيير والمتقد حيوية في حبّ أمريكا والجميع في العالم، وليس في شيخ أبيض عجوز في السياسة، متجذر في انتمائه للقارة الأوروبية بمسيحيتها التقليدية وأعراقها القديمة .. قلت أن تجد فيه أملها في الخلاص. وإنه أوّلاً الخلاص من «الإرهاب» الذي لم يدر بوش أو من قبله من الرؤساء أن سياسات الولاياتالمتحدةالامريكية في عهدهم هي طرَفه الآخر، إنتاجاً أو معالجة، وإن كابر من كابر منهم. وسوف لن يجد أوباما الإرهاب فقط ليعالجه على غير طريقة أسلافه، ولكن كذلك الأزمات المالية والاقتصادية التي تعاني منها الولاياتالمتحدةالامريكية منذ الحادي عشر من سبتمبر وربما منذ ما قبلها، باعتبار الحادي عشر من سبتمبر كان نتيجة لا بداية لهذه الأزمات المتكاثرة: المالية والاقتصادية والعسكرية والسياسية. والتغيير الذي رفعه شعاراً لحملته وبرنامجه أوباما، كان قد أصبح مطلباً لجماهير الشعب الإمريكي كافة إزاء هذه المآزق التي أوقعتهم فيها إدارة بوش الابن وربما منذ بوش الأب. وكان من الطبيعي أن يرفع مرشح شاب هذا الشعار.. فلم يكن أنسب من شعار التغيير لقيادة حملة للرئاسة الامريكية ينتظر من صاحبها قلب الأوضاع رأساً على عقب، لشدة ما لم تنفع المعالجات أو المؤاربات على أزمات أمريكا وفشلها الذريع في حروبها التوسعية. وهنا ستظهر عبقرية أوباما في مباشرة التغيير الهادئ الذي يفضي إلى الجوهر دون رجعة. وستكون محطته الصعبة مع المؤسسات الأمريكية، المعروفة بأخطبوطها في سبيل ضمان شفافية القرار وحكمته ونتائجه. لأنه لا يكفي التغيير في القيادة إذا لم تشمل ريحه المؤسسات الدستورية على اختلاف درجاتها وثقلها. إن الديمقراطية الامريكية هي منتوج داخلي مضت أجياله بل ضحت أجياله في توليفه، من أجل أن يكون بقياس شعب بل شعوب، بل جماعات مهاجرة متعددة الأعراق والأديان والأصول والثقافات، مستنبتة في غير أرضها أصلاً. ومن هنا صعوبة نقل هذا المنتوج بل حتى فهمه لدى كثيرين في البلدان الديمقراطية الأخرى. وربما لهذا السبب لم تنجح أمريكا في فهم ديمقراطيات الآخرين، لمعضلة شعبها نفسه مع هذه الديمقراطية التي تقيمها أساساً على الدعاية والمال. وفي تقديري أن أنجح ما نحج فيه باراك أنه حرّر نفسه من منحة الحكومة الفيدرالية لتمويل حملته .. ليتخلى عنها توفيراً للمال العمومي، فلم يقم حملته إلاّ على دعم مؤيديه وأموال محبيه. وثاني نجاح لأوباما أنه لم يضعف ولم يهن أمام الاعتبارات العصبية والعرقية والدينية والفئوية التي وُوجه بها بها لعرقلة تقدّمه في العملية الانتخابية. فهل ليس من الغريب أن لا يسجل الإحصاء في استطلاعات الرأي المختلفة التي واكبت الحملة إلا تفوّقاً بسيطاً له على منافسه الجمهوري، في حين من الغد سجلت له نتائج الفرز أغلبية ساحقة لم يشهدها تاريخ الانتخابات في الولاياتالمتحدة. أليست الماكنة «الاستطلاعية» الانتخابية للعالم الغربي التي يسيطر عليها عادة اللوبي الأبيض هي التي حاولت أن توحي للناخبين ومن ورائهم للعالم أن اللون عائق وأن التحرّر من الآلة الرأسمالية عائق وأن الدين باعتبار من الاعتبارات عائق. وثالث درس قدّمته الانتخابات الامريكية: أن الأمل معلق بناصية الشباب كلما تآكلت أحراف الدولة أو اعتراها الوهن أو أنهكتها حروبها. وأن التداول سنّة وليس منّة ولا هو حكم دستور. ورابع ما قدّمه باراك ليس لأمريكا فقط ولكن للعالم كله: نظافة المسؤول عندما يقدم نفسه للمسؤولية العامة، وبالأخص المسؤولية الكبرى. فلم يكن هو فقط في نفسه نظيفاً حتى أحاط نفسه بكل من هو نظيف.. حتى أنه لم يسجل في ملفه طول مسيرته السياسية وحتى الانتخابية أدنى خطأ أو تجاوز. وآخر ما ملأ العيون تقديراً لاستقامته وعفّته وحُرْمته: وقفةُ زوجته إلى جانبه وقفة الأليف لأليفه، باعتزاز وشموخ وتواضع. وستبقى كلمات هذه السيدة الجديدة في البيت الأبيض أكثر من درس في التواضع وعلوّ الهمة في الوقت نفسه، وهي تحكي قصتها منذ خرجت فتاة من أحياء السود في الجنوب الامريكي لترسم طريقها نحو النجاج، وأخيراً نحو الأخذ بساعد زوجها الى سدّة الحكم بما تعنيه الكلمة من جدارة ومسؤولية وصدق وتفان.