كثيرا ما اعتبرت ظاهرة النشر على النفقة الخاصة مظهرا من مظاهر تخلف قطاع النشر في بلادنا، بل أن الناشر التونسي نفسه يشتكي من هذه الظاهرة ويرى فيها تطاولا على دوره ووظيفته. ولكن إذا ما تعمقنا في الأسباب التي جعلت قطاع النشر يحتكم إلى ظاهرة نشر الكتاب على نفقتهم الخاصة، فإن المسؤولية ستلقى أساسا على عاتق الناشرين الذين لم ينجحوا في نحت علاقة تستند إلى المصداقية والثقة بينهم وبين الكتاب، إضافة إلى عزوف أغلبيتهم عن نشر الأعمال الأدبية وإذا ما حصلت الموافقة فإنهم يطبعون 500 نسخة وفي أحسن الحالات 1000 نسخة. وفي مقابل هذا السلوك، فإن الناشرين يعولون على الكتب المدرسية ذات المضامين،التي تساعد التلاميذ على تحسين مستواهم في المواد العلمية والتجريبية. طبعا نحن نفهم جيدا البعد التجاري وأهميته في مهنة النشر باعتبار أن دار النشر مؤسسة تحتاج إلى المداخيل المالية المضمونة كي تستمر ولكن ما لم يفهمه الناشر التونسي باستثناء البعض القليل هو أن دار النشر التي تبقى والتي تضيف إلى ثقافة البلاد هي تلك التي تمتلك مشروعا ثقافيا وتتعاطى مع النشر بوصفه عملا ثقافيا حساسا وخطيرا. لذلك فإن دور النشر الأوروبية على غرار Gallimard وSeuil ودور النشر العربية مثل "الآداب" و"الشروق" المصرية، قد أدركت عمق وظيفة النشر وأبعادها والآفاق التي تفتحها لأهل الفكر والكتابة خصوصا أن هناك دور نشر هي التي كانت وراء اكتشاف أسماء مهمة في عالم الآداب والفكر العالميين. في الحقيقة قلة قليلة جدا التي فهمت بعض مستلزمات مهنة الناشر في تونس، لذلك عول عديد المبدعين في بلادنا على نفقتهم الخاصة وساعدتهم وزارة الثقافة والمحافظة على التراث في استعادة نفقاتهم من خلال شراء كمية من إصداراتهم. في حين أن دور النشر التي تتمتع بدعم الورق إضافة إلى شراء الوزارة من إصداراتها وبالتالي تصبح تكلفة الكتاب لا تكاد تذكر بالنسبة إلى الناشر، نجدها تتكاسل في الاضطلاع بدورها في نشر الكتاب الإبداعي التونسي، لأن المنطق يقول إن مهمة الكاتب الكتابة في حين أن دور الناشر النشر وعندما يصبح الكاتب هو نفسه الناشر فهذا يعني أن عالم الكتاب يشكو من خلل ويظهر أن وزارة الثقافة واعية بهذه المشاكل وتسعى إلى جعل الأمور في نصابها ومجابهة ظاهرة النشر على النفقة الخاصة وذلك من خلال تشجيع الناشرين من جهة واعتماد الصرامة مع الكتاب المنشور على نفقة صاحبه. ولا شك في أن الأدباء والمفكرين والكتاب بشكل عام يباركون هذا التشجيع وتلك "الصرامة" ولكن لعله من المهم أن لا ينسى الناشر التونسي أن هذه التشجيعات تقابلها استحقاقات على رأسها المساهمة الجدية في نشر الكتاب الفكري والأدبي التونسي وعدم إدارة ظهره للعناوين الأدبية بحجة أنها غير مربحة. بل لابد من أن يطور الناشر التونسي خريطة توزيع الكتاب وأن يراهن على أهمية الدعاية لمنشوراته وأن يتحلى بشجاعة الإقدام على العمل الإبداعي المتميز مستندا في تقييمه إلى لجان قراءة ذات مصداقية. وهكذا فقط ينجح في عمله وينجح معه الكاتب ويتألق المشهد الثقافي الوطني ككل.