لم تكن المسألة الديمقراطية وحدها التي حظيت بمناقشات ساخنة وعميقة في منتدى الدوحة للتنمية والديمقراطية، فقد شكل موضوع الإعلام ودوره المتصاعد في العالم كوسيلة للانفتاح على الأخر، مجالا للجدل المهني والسياسي، ولم تخل المناقشات بهذا الشأن من تباينات واضحة بين تجارب مختلفة، عربية وغربية وآسيوية وغيرها، كشفت أن ملف الإعلام يرتبط بقضايا ثقافية وسياسية ودينية معقدة، وهو جزء من التجاذبات فيما بين الدول والسياسات هنا وهناك.. وعلى الرغم من أن المنتدى اهتم بقضية "الإعلام العابر للقارات : نحو فضاء أكثر انفتاحاً وتأثيراً"، وهو العنوان الرئيسي لهذا المحور، إلا أن المناقشات بهذا الخصوص، كانت أوسع بحيث طالت مشكلات كثيرة على درجة كبيرة من الأهمية، بينها الأنظمة الشمولية الرافضة لحرية الإعلام، والطرق المستخدمة لمواجهة الإعلام الفضائي، ومجالات التفاعل مع الفضائيات، وكيفية ضمان حرية الإعلام وسط الحروب الإعلامية، إلى جانب مسألة تعايش وسائل الإعلام مع تداعيات الأزمة المالية وكيفية المحافظة على المستويات المهنية للعمل الصحفي.. وطرحت في هذا السياق تساؤلات كثيرة استبقت المناقشات حول ملف الإعلام لعل أبرزها، هل يواجه صحفيو اليوم أصعب تحد مهني؟ وما إمكانية تقديمهم لخدمة إعلامية مرضية؟ وهل الموضوعية وسيلة للمصالح، أم أداة لتحقيق الغلبة أم محرّك للتطور والتقدم؟ وإلى أي مدى يمكن لوسائل الإعلام تغطية وتفسير أسباب الأزمة الاقتصادية؟ وما هي الإمكانية المتاحة لوسائل الإعلام للتقليل من حجم الأزمة المالية على أوضاعها الاجتماعية والمالية؟ وهل الرأي العام متفاعل مع الفضائيات، وما هي حدود تأثيرها على صناعة رأي عام جديد في العالم؟ وكيف يمكن ضمان حرية الإعلام في ظل الحروب الإعلامية؟ وكيف يتم الحفاظ على المستويات المهنية لأداء الإعلاميين من دون المساس بحرية الإعلام؟ الإعلام وحوار الثقافات الإعلامية الأمريكية، لويز بلوان، التي ترأس مؤسسة إعلامية تحمل اسمها، لاحظت أن المسافات وقع اختصارها الآن، قائلة "لا بد أن نعرف الكثير عن جيراننا، وأن نحلّ المشاكل معا ونتفهم بعضنا البعض، ونتصرف من منظور أننا مواطنون في عالم واحد"، على حدّ قولها.. وشددت على ضرورة أن يجتهد الإعلام الغربي في تقديم ما سمتها ب "ثقافة الشرق الأوسط"، وأن يحرص على تقريبها من المجتمعات الغربية، بما يساهم في إثراء الحوار معها.. وأوضحت في هذا السياق، أنه "كلما تعرفنا على ثقافة الآخرين، نجحنا في حسم الخلافات فيما بيننا".. وقالت الإعلامية الأمريكية "إذا أردنا أن نتقارب في عالم العولمة علينا أن نتبادل الأفكار وأن نسعى للعمل المشترك"، مشيرة إلى أنه "كلما اتسعت رقعة الديمقراطية، نجحنا في إقامة حوار بين الثقافات، وبالتالي ضيقنا من مساحة الاختلاف فيما بيننا"، قبل أن تضيف : "إن وجود اختلافات بين الثقافات أفضل من توفر ثقافة واحدة تعمل على سيادة العالم والتحكم فيه".. لكن الإعلامية بلوان، اعتبرت في المقابل أن الديمقراطية يمكن أن تؤدي إلى حرية الأفراد، وهو ما يمكن أن ينعكس على أجهزة ووسائل الإعلام، مؤكدة على ضرورة "ملاءمة الديمقراطية مع الثقافات المحلية".. في دوامة الإعلام الغربي من جانبه، أكد الأستاذ والإعلامي العراقي العامل في شبكة الجزيرة، لقاء مكي العزاوي، أن الصحافة "مهنة ذات مسؤولية اجتماعية"، وأن "دور الصحفي هو أكبر من مجرد ناقل للمعلومات، بل هو موثق وصانع للتاريخ"، على حدّ تعبيره.. وطالب الصحفيين بضرورة كسر حاجز الرقابة الذاتية، خاصة في ظل النظر إلى الصحفي على أنه أكبر من كونه ناقلا للمعلومة، داعيا في سياق آخر إلى أهمية تلازم الحرية والمسؤولية، وألا تكون هذه المسئولية مرتبطة بتلميع السلطة، بقدر ما تكون مرتبطة بمعايير وأسس مهنية.. لكنه انتقد في ذات السياق أجهزة الإعلام التي تركز فقط على سلبيات الحكومات، دون التعرض للمناطق الفقيرة، سيما في دول العالم الثالث والدول العربية.. وأكّد مكي على أهمية تدريب الصحفيين وتأهيلهم قبل دخولهم سوق العمل الصحفي، وعدم النظر إلى مهنة الصحفي كمهنة الطبيب، "إذ أن مهنة الصحفي أصعب من الطبيب، فإذا كان خطأ الطبيب يمكن أن يقتل شخصا، فإن خطأ الصحفي من الممكن أن يقتل أمة"، على حدّ قوله.. وأشار الإعلامي العراقي إلى إن دول العالم الثالث، كانت في العقود الماضية "تشكو من هيمنة الغرب على الإعلام، ولكنها لم تتجاوز هذا الأفق إلى الآن، بحيث ما زالت تقلد الإعلام الغربي حتى بعد الثورة الإعلامية التي أحدثها ظهور القنوات الفضائية والإنترنت".. واعتبر العزاوي أن هذه الدول ما زالت "تستنسخ تجربة طالما أدانتها ولم تقدم رؤية جديدة للخبر الذي ما زال يتلخص في البحث عن حوادث الموت والقتل، بل ما زال يصنّف ضمن الخبر الجيّد أو السيء، وهو ما يعني أن الإعلام العربي ما يزال يدور في دوامة النمط الغربي السائد.. ودعا إلى أن تقترن حرية الصحافة ب "المسؤولية في التعاطي مع الوقائع الاجتماعية ومع الأوضاع الإقليمية والدولية"، مضيفا أننا "نحتاج إلى تغيير في الآلية عبر الخروج أولا من الهيمنة الغربية والرأسمالية على الإعلام".. وقال مكي، على الأجهزة الإعلامية الغربية التعامل معنا كفضاء إنساني، "لأننا لسنا مستنقعا اقتصاديا أو تجاريا، أو حقل تجارب تقتصر العلاقة معنا على أنباء القتل والعنف والفقر والحرمان"، داعيا هذه الأجهزة إلى "تغيير أسلوب نظرها إلى الإعلام العربي بعيدا عن أية نظرة نمطية".. وشدد على أن الإعلام يحتاج إلى عملية تربية للمجتمعات، مثلما تجري عمليات التربية على حقوق الإنسان.. داعيا وسائل الإعلام إلى التحلي بالمسؤولية والحيادية في التعاطي مع الوقائع والأحداث الإقليمية والدولية، معتبرا أن الوقت قد حان "لإحداث تغييرات جذرية على الإعلام العالمي مع وجود صحفيين مؤهلين وحرفيين".. "تثقيف" الإسلام بعد "تسييسه" من ناحيته ركز السيد يوسف صديق كاتب وفيلسوف تونسي مقيم بفرنسا في مداخلته، على فكرة قدرة الإعلام بمختلف صوره على تصحيح الأنماط المشوهة عن الثقافات أو الأشخاص. واستعرض السيد صديقي في هذا الصدد تجربة قام بها من خلال إعداده لفيلم تم تصويره في 8 بلدان عربية مسلمة عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتناول فيه الإسلام بمنظور ليس جدليا وإنما عبر إبراز الدور الذي يلعبه الإسلام في تقدم الشعوب حيث عرض هذا الفيلم في إحدى الفضائيات الألمانية.. ودعا إلى تقديم الإسلام عبر وسائل الإعلام بصورته الصحيحة ليس كدين فقط وإنما كدين وثقافة والتحدث عنه كقيمة تمكن من التعايش بسلام. وقال إن الإسلام يفرض نفسه على الإعلام أكثر من أي مضمار آخر، وله أبعاد سياسية ويحدد مصير البشر، و أكد أن العداءات المتطرفة لا تمت للإسلام بأية صلة فهو دين القيم والثقافة، مشيرا إلى أنه عند حديث وسائل الإعلام عن الإسلام "لا بد من الحديث عنه بإيجابية ولا ينبغي أن نربط بينه وبين التطرف، ولا أن نقدم الإسلام وكأنه مسؤول عن كل ما هو سيئ".. وأضاف صديقي أنه "لا يجب تقديم الإسلام على أنه دين فقط، بل يجب تقديمه أيضا على أنه ثقافة"، وتابع "عندما نقوم بعرض صورة المسيح في أوروبا أو في الولاياتالمتحدةالأمريكية، فإننا نصوره على أنه رجل فاضل وجيد للغاية، لذا فإن النبي محمدا (عليه السلام) يجب أن يعامل بالقدر نفسه من الاحترام".. مناقشات ساخنة هذه المقاربات على أهميتها كانت محل نقاش واسع بين الحضور في المنتدى، حيث انتقد البعض الاقتصار على ربط الإعلام بالمسؤولية، واعتبروا أن ذلك جزء من قائمة طويلة (تتضمن الرقابة الذاتية وأخلاقيات المهنة والمصلحة العليا..) يتم من خلالها حصر الصحفيين في مربع ضيق، فيما أن الصحفيين جزء من السياق السياسي والإعلامي والاجتماعي ولا يجوز تخصيصهم بتابوهات محددة.. ودعا إعلاميون عرب وأجانب المسؤولين على الإعلام، إلى عدم تغليب السبق الصحفي أو الإعلامي على حساب المسؤولية، وطالبوا بضرورة تقديم آلية إعلامية تتناسب والتطورات الحاصلة في عالم اليوم، في ظل اعتبار الإعلام عنصر توثيق وتأريخ. ووافق الحضور الرأي الذي تقدم به الإعلامي العراقي، لقاء مكي ، الذي شدد على ضرورة أن لا يكون دور الصحافة التفتيش فقط على مواطن الخلل في السياسات الحكومية أو التركيز على تلميعها، واعتبروا أن من مسؤولية الصحافة كذلك، الكشف عن مواطن القهر والظلم في العالم النامي والدول العربية".. كما طالب المتحدثون، بضرورة التمييز بين نقل الأخبار بكل مصداقية وشفافية ومهنية، والحرص على طرح الموضوعات التي تتسم بالابتكار والتجويد بعيدا عن القوالب الجامدة.. وقال مشارك إن الإعلام لا يتدفق بصورة موضوعية ولا يخدم الشرق الأوسط، وهو ما اعترف به المحاضرون خصوصا الغربيون منهم.. وتساءل متدخل آخر عن صناعة السينما باعتبارها أكثر قدرة على صناعة الرأي العام، وقال إن الأفلام الغربية تصور الإنسان العربي على أنه شيطان، وتعكس صورة مشوهة عنه، في الوقت الذي تم فيه تحسين صورة الصيني والروسي والأسود.. ولا يبدو وفق ما دار في منتدى الدوحة حول الإعلام أن يغلق هذا الملف بشكل نهائي، إذ مع تسوية ملف قديم يفتح آخر جديد، بموجب منطق التطور والانفجار الإعلامي الضخم الذي يعيشه العالم اليوم..