حتى وإن تضمن خطاب أوباما في القاهرة فقرات مطولة ذات دلالات سياسية واضحة فإن ما يمكن استنتاجه من الخطاب ككل أن الرئيس الامريكي جاء إلى المنطقة مقدما نفسه كرجل توفيق حضاري وراغبا في فتح صفحة جديدة بين الولاياتالمتحدة والعالم الاسلامي. ولعل المتمعن في عديد فقرات الخطاب سيجده يدخل في سياق مشروع إدارة بوش التي أرادت القيام بحملة لتحسين صورة أمريكا في العالم لكن لم يسعفها النجاح لتمادي تلك الادارة في سياستها ومواقفها ومخططاتها وبالتالي يمكن القول أن أوباما أراد القيام بحملة علاقات عامة تهدف إلى التخفيف من وطأة ما تلقاه الولاياتالمتحدة من كراهية في مختلف مناطق العالم وتحديدا في العالم الاسلامي. لقد كان الرئيس الامريكي واضحا في عباراته المنتقاة بدقة حريصا على تناول بعض المواضيع الحساسة بحذر شديد مجددا في بعض الاحيان مواقف سابقة له ومقدما مواقف جديدة أحيانا أخرى يعول عليها بالتأكيد في تمرير رسالته إلى مليار ونصف نسمة يعلقون آمالا كبيرة على تغيير سياسة أمريكا حكومة وإعلاما وقطاعا كبيرا من الرأي العام تجاه دينهم وقضاياهم. احتوى خطاب أوباما على ثلاثة محاور: - محور حضاري استمد فيه جوانب ذاتية وجعل منه منطلقا ل"بداية جديدة" بين أمريكا والعالم الاسلامي - محور سياسي تناول فيه أبرز القضايا وخصوصا القضية الفلسطينية - محور اجتماعي اقتصادي كرسه لبعض المسائل الاجتماعية "الخلافية" صلب بعض البلدان الاسلامية إضافة إلى إبداء رغبة أمريكية في المساعدة. دور توفيقي بالنسبة للمحور الاول وهو الرئيسي في خطابه فقد خصصه لمحاولة إصلاح سوء الفهم والحد من معاداة الاسلام الظاهرة المنتشرة في الغرب والتي يدعمها ويغذيها مفكرون متطرفون قائلا "جئت سعيا إلى بداية جديدة بين الولاياتالمتحدة والمسلمين في العالم ترتكز على المصالح المتبادلة والاحترام المتبادل وعلى حقيقة أن أمريكا والاسلام لا يقصي أحدهما الاخر ولا يحتاجان إلى التنافس". ولكن لا بد من استحضار أمر محوري في هذا السياق وهو أمر قد يكون ذا طابع سياسي إلا أنه يبقى ثابتا في العقلية الامريكية وهو المتعلق باسرائيل حيث كان أوباما قاطعا بما لا يدعو للشك من أن الصلات القوية بين اسرائيل وأمريكا لا يمكن "زعزعتها" وهذه المقولة مكملة لزاوية نظره الحضارية في التعامل مع العالم الاسلامي بما يعني أن كل شئ مقبول وممكن في العلاقات بين الجانبين بشرط إخراج اسرائيل من المعادلة وهو ما يتطلب "اجتهادا" من قبل المسلمين في صياغة خطاب جديد يتوجهون به إلى الادارة والرأي العام في الولاياتالمتحدة. كما أن تأكيده على أن أمريكا ليست في حرب مع الاسلام "ولن تكون كذلك" فيه طمأنة مكملة لفكرة نفي التنافس بين الجانبين وهو ما يعني في الان نفسه قطعا مع ما كان يروج له منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة من أن الاسلام سيكون عدو الغرب بدل الشيوعية ومن سوء الحظ لم تجتهد إدارة بوش كثيرا في تحديد أولويات سياستها الخارجية حيث جعلت "الخطر الصيني" في درجة ثانوية وركزت على العالم الاسلامي. حاول الرئيس الامريكى عند إلحاحه على أهمية الوفاق مع العالم الاسلامي الجمع بين المبادئ والقيم العامة وبين ما هو ذاتي عندما اعترف بكونه مسيحيا وهي رسالة جديدة للرأي العام الامريكي لكنه ابرز "جذوره" الاسلامية من خلال الاشارة إلى أن والده أصيل عائلة كينية تدين بالاسلام على مدى أجيال إضافة لتقديمه مثالا على عدم تهميش المسلمين في أمريكا بانتخاب كايث اليسون أول مسلم في مجلس الشيوخ الذي اقسم على نسخة من القرآن لدى أدائه اليمين وهي نسخة كان يحتفظ بها توماس جيفرسون ثالث رئيس أمريكي في مكتبته الخاصة بما يعني أن جانبا من الطبقة السياسية الامريكية على علاقة بالاسلام منذ تأسيس الولاياتالمتحدة. وعندما استشهد بالانجيل والتوراة بدا أوباما داعيا إلى تعايش الاديان السماوية الثلاثة واضعا المنتمين إلى تلك الاديان على قدم المساواة. ومن المبادئ أيضا تأكيده على حرية العقيدة "ليتمكن الجميع من العيش معا" دون أن يتغافل وهو المتواجد في بلد مسلم عن الاعراب عن انشغاله بخصوص أوضاع الاقليات الدينية في الشرق الاوسط فيما يتعلق بالاقباط في مصر والمارونيين في لبنان وكذلك انشغاله بالتوتر بين السنة والشيعة في العراق. اسرائيل خارج المعادلة ومن المؤكد أن الجانب السياسي كان محل انتظار الرأي العام في العالم الاسلامي ولعل الجديد فيه حديث أوباما عن فلسطين وهي تسمية غالبا ما يقفز عليها الاعلام الغربي فيتحدث عن دولة فلسطينية لكن الرئيس الامريكي كان واضحا هذه المرة بتأكيده على أن قيام دولة فلسطينية من مصلحة اسرائيل وأمريكا والعالم ورغم أنه لم يقدم تفاصيل عن كيفية التوصل إلى حل إلا أنه جدد موقفه الرافض لمواصلة بناء المستوطنات داعيا الفلسطينيين (وحدهم) إلى وقف العنف وحث حركة "حماس" على الاعتراف باسرائيل وب"حقها في الوجود" كما يحسب لاوباما تجنبه وصف "حماس" الحركة الارهابية ربما لتجنب تعميق الانقسام بين الفلسطينيين. ومن منطلق إدراكه ووعيه بكون الوجود العسكري الامريكي على أراضي دول إسلامية يمثل مصدرا للتوتر في العلاقات بين الولاياتالمتحدة والعالم الاسلامي جدد أوباما التأكيد على رغبة إدارته في سحب القوات الامريكية من العراق حيث المغامرة الامريكية "البائسة" وأن بلاده لا تريد الابقاء على قواتها في أفغانستان رغم ما أبدته إدارته من رغبة في مواصلة ضرب تنظيم "القاعدة" وحركتي "طالبان" في كل من أفغانستان وباكستان. كما مد أوباما يده لايران بخصوص برنامجها النووي الذي هولت إدارة بوش من شأنه ووصل الامر إلى حد التفكير في توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية ويبدو أن الرئيس الامريكي يريد أن ينطلق في الحوار من حيث بداية الازمة وليس انطلاقا مما وصله الملف في عهد بوش قائلا: "أن أمريكا تريد التقدم بدون شروط مسبقة وعلى أساس الاحترام المتبادل مع إيران" وهي بالتأكيد لهجة مهادنة تغير مسار الملف النووي الايراني دون أن يعني ذلك رمي واشنطن المنديل ذلك أن حدة ردود الفعل الامريكية تجاه التصعيد الكوري الشمالي في الاونة الاخيرة يؤكد بأن لدى واشنطن سقفا محدودا في التسامح في المجال النووي. بيداغوجيا ولم يترك أوباما الفرصة تمر دون أن يستعرض جوانب اجتماعية نفخ فيها الاعلامي الغربي إلى حد جعلها وكأنها "خاصية" في العالم الاسلامي" ويتعلق الامر بالمرأة وهو موضوع أسال الكثير من الحبر في الغرب ومازال جانب كبير من المفكرين فيه ينظرون إليه من زاوية "الحريم" مثلما كان شأن المستشرقين في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. لقد لعب الاعلام الغربي دورا كبيرا في "كشف" حقيقة أوضاع المرأة في بعض البلدان مثلما كان الشأن في أفغانستان غداة انهيار حكم "طالبان" حيث جاءت الصورة "متحدثة " عن " امتهان للمرأة وإقصائها اجتماعيا وغرقها في الامية" وهو ما دفع الرئيس الامريكي إلى طرح موضوع المرأة في العالم الاسلامي رغم تفاوت أوضاع المرأة فيه مركزا على رفع الامية عنها ومشاركتها في المجتمع بتمكينها من الاختيار بين الدور التقليدي والدور الفاعل في المجتمع مركزا على حقها في "اتخاذ القرار" بشأن دورها من أجل تحقيق المساواة مع الرجل دون أن يتغافل عن كونه يحترم المرأة التي تختار الدور التقليدي ومؤكدا على أهمية تعليم الفتيات. وقد ربط أوباما بين مكانة المرأة اجتماعيا ودورها في الاقتصاد بإعلانه أن الولاياتالمتحدة ستعمل من خلال شراكة مع البلدان الاسلامية على مكافحة الامية وتشجيع النساء على العمل في إطار برامج قروض صغرى. إنه نوع من البيداغوجيا أراد أوباما التعامل من خلاله مع ملف ينظر له في الغرب على أنه حساس في بعض المناطق الاسلامية لكن خطابه افتقر إلى بيداغوجيا السلام فيما يتعلق بسياسة اسرائيل العدوانية والاكتفاء بكسب الود ولعب دور المكلف بالعلاقات العامة مع العالم الاسلامي لكنه يحتّم عليه تجاوز العبارات الوردية والامال إلى الفعل وهو ما ظل يفتقر إليه رؤساء أمريكا خصوصا أن اسرائيل تشكل حجر الزاوية في السياسة الامريكية.