تونس الصباح: سيّارات وهياكلها تركت في الشوارع وأمام المنازل أكل عليها الدهر وشرب، فأضجرت راحة الجميع وحفزت جهود البلدية للتصدي لها. تعترضك يوميًا وما تلبث أن تراها تتزايد معلنة تراكم أكوام من الخردة تقلق بمنظرها البشع مظهر المدينة وجماليتها. هي ليست في وضعية توقّف ولا هي في وضعية وقوف، بل هي في حالة مكوث طال أمده فأقلقت راحة من جاورها وشوّهت منظر شوارعنا بعد أن هجرها أصحابها فباتت هياكل لا حياة فيها. كستها الاتربة فطمست ملامحها وأصبح من الصعب تبيّن لونها من فرط ما لفحتها به أشعة الشمس، فتشقق طلاؤها ليعلن ميلاد منظر بشع لهيكل معدني ربض أمام منزل غطّت رصيفه الاعشاب الطفيلية لتعانق عجلات سيارة، أو بالاحرى كومة خردة، ثقبت أطرها وغابت إحداها كما غاب كرسيّها وجزء من قطع غيارها وفقد بلّورها ليترك أطرًا كساها الصّدأ وتآكلت من كل جانب. عيّنة من جملة 150 سيارة، تيسّر لبلدية تونس العاصمة أن تحصيها. فشنّت بذلك حملة على هذه الخردة التي ما فتئت تتزايد عشوائيًا وفي كل مكان كما اتفق. المتسبب الاول في انتشار هذه الفقاقيع السامة أشخاص لم يبالوا بأبسط قواعد النظافة ولم يحترموا القانون المعاقِب على مثل هذه الممارسات وغيرها، فضربوا به عرض الحائط معلنين تجاهلهم إيّاه. رُبّ عذر أقبح من ذنب "... خيّر ترك سيّارته على أن يدفع للمأوى الذي يبعد قرابة 500 متر عن مكان نسيانها... فظلت قابعة لتنعم الكلاب السّائبة بظلّها...". هكذا شخّص السيد عمر ما تشاهد عيناه يوميًا. فقد اختار جاره أن يتعدى على أبسط حقوق الجار ومبادئ الجوار. فركن سيارته مباشرة إلى جانب مسكن السيد عمر. "... هو ليس وقوف مؤقت..." على حدّ قول محدثنا "... بل هو طويل الامد ناهز الثلاثة أشهر ونصف... جرّب فيها صاحب السيارة اللعينة الاساليب والحيل ألوانًا وصنوفًا شتى حتى تظل سيّارته على تلك الحال وفي كل مرة يقدم حجة واهية...". يقول السيد عمر ذلك، مستشهدًا بآخر ما قدمه له جاره من تبرير قبل سفره، مردّه غياب ما يكفي من نقود لايوائها في المرأب المجاور قصد إصلاح ما طالها من أعطاب حوّلتها إلى عَقبة أمام راحة هذا المواطن. وإن غابت هذه السيّارة مؤقتًا عن مخالب شرطة البلدية فإنها لن تعيش طويلاً ومآلها مستودع الحجز البلدي آجلاً أم عاجلاً. وفي انتظار ذلك لا تزال هذه السيارة وغيرها منعزلة يتيمة، خرابًا هجرتها الحياة والحركة "... إلا في الليل...". "... إلا في الليل..." استثناء قدّمه السيد عمر، لتقلب حياته معه وتنغص معه راحته، فهذه الخردة تتحوّل إلى حانة يؤمّها من استباحوا السكر والعربدة ولهم فيها أغراض أخرى. التأكّد من هذه الوضعية لم يحتج إثباتًا من الجار أو من غيره، إذ يكفي النظر إلى قوارير الجعة والخمر المتناثرة وشظايا البلور المكسور المتناثر هنا وهناك. صمت السيد عمر برّره بعدم رغبته في إثارة مشاكل مع أجوار هو أقدمهم، فخيّر الحلول السلمية متناسيًا وجود أطراف تسهر على راحته وتطبّق القانون لمصلحته وتنصفه ممّن اتخذوا حججًا واهية وأعذارا لتبرير ما جرّمه القانون. جهود وجهود ولكن... أوضح السيد مجدي الهنتاتي، كاهية مدير إدارة النظافة ببلدية تونس، أن المشاكل التي تطرحها هياكل السيارات والسيارات المهملة ما فتئت تتزايد رغم ما تقوم به البلدية من حملات. وأشار إلى أن "... كلمة القانون صارمة في هذا الموضوع ولا سبيل للتساهل فيها...". فالفصل الثاني من الامر عدد 18662007الصادر بالرائد الرسمي للبلاد التونسية بتاريخ 27 جويلية 2007 ينصّ على منع إهمال هياكل السيارات ووسائل النقل على الارصفة والطرقات وفي الساحات والحدائق العامة والاراضي غير المبنية. وأكّد أن "... كل مخالف تتم معاقبته جراء إهماله بخطية قدرها 40 دينارًا، في صورة العلم بمصدر الهيكل وصاحب السيارة...". وفي حال الجهل بذلك فإن مستودع الحجز البلدي ودفع خطية ب4 دنانير ليوم الايواء الواحد وتكاليف الرفع والحراسة ومن ثم المزاد هي مصير تلك السيارات، لا محالة، وعند تجاوز ثلاثة أيام عن دفع الخطية فإن المحكمة هي التي تنظر في الامر. مصبّات "برج شاكير" و"هنشير اليهوديّة" وغيرها هي قبور بعض هياكل السيارات التي جهلت مصادرها وغابت بطاقاتها الرمادية. فترى أصحاب ورشات ميكانيك السيارات وكهربائها ومطالتها يتهافتون لاقتناء ما تيسّر من قطع غيار تلك السيارات، قبل أن تطالها يد أعوان البلدية الذين جنّدوا أنفسهم ومعداتهم الناقلة ليلاً ونهارًا للتصدي لظاهرة أرّقت الجميع واستنزفت جهودهم. مناطق اشتهرت بكثرة السيارات المهملة فيها، خصّ منها السيد مجدي الهنتاتي بالذكر "الحرايرية" و"العمران" وبحدة أقل منطقة "باب بحر". وأرجع ذلك إلى انتشار ورشات إصلاح السيارات التي تصطفّ أمامها أحيانًا سيارات مجهولة النسب، القص أولى بها بما أن أيام مكوثها طالت لتصل إلى أشهر. وعن طول هذه المدة، لخّص كاهية مدير إدارة النظافة ببلدية تونس الاشكال فأشار إلى أن "... الامر لا يرتبط بعمل البلدية فقط، بل يشمل أيضًا تدخل أطراف أخرى في سبيل التصدي لهذه الظاهرة على غرار مستودع الحجز البلدي الذي يفرض طاقة استيعاب محدودة... هذا بالاضافة إلى طاقة رفع المعدات التي تستعملها البلدية والتي لا تتجاوز أكثر من 6 أو 7 سيارات ترفعها البلدية في اليوم...". .. وفي عملية الرفع جهود ومشاقّ أخرى كثيرة هي المشاكل التي تقع أثناء رفع تلك السيارة أو عند إزالة ذلك الهيكل الهرم مردّها بالاساس قلة وعي أصحابها، فترى أعوان البلدية يجاهدون في سبيل إراحة من أقلقهم تحمّل عبء سيارات أهملت فكدّرت صفو حياتهم. وفي هذه المشاقّ معاناة أخرى، يبدأ رحلتها أعوان البلدية بالبحث عن صاحب السيارة وعادة ما يكون الفشل مصير الرحلة قبل أن تبدأ، فيضطرون إلى رفع السيارة على أمل لحاق صاحبها بها. وما تنفكّ تلك السيارات المهملة تتزايد بنقصان وعي أصحابها وما تلبث مشاكلها أن تطفو على سطح جمالية المدينة وسلامة سكانها وراحتهم. ذلك حال سيارات قديمة، هياكلها الرثّة ناهز عمر بعضها أكثر من ربع قرن، تُركت فأضرّت، فما البال بتلك التي لا تزال تجوب شوارعنا؟