الصباح - دبي - من مبعوثتنا الخاصة ليليا التميمي وإن لم يتحول عدد كبير من المتفرجين إلى قاعة مسرح «فورست غروب» بمدينة الجميرة بدبي لمتابعة «زنديق» ميشيل خليفي، فإن الفيلم حصل قبل العرض على جائزة «بوابة الصحراء». لدعم المشاريع قيد الإنجاز والتي قدمتها إحدى شركات الإنتاج العالمية... بعد العرض، كانت علامات الرضا بادية على وجوه الذين تابعوه كما أن الفيلم فتح بابا عريضا للنقاشات بين النقاد، نقاشات تواصل بعضها إلى ساعات متأخرة من الليل... رجل يلف الشوارع بحثا عن إمرأة... يعثر عليها ويلتقطها بسيارته... هكذا انطلقت حكاية «الزنديق» بسيطة ودون تركيبات. لكن بمجرد أن مرت كاميرا المخرج ميشيل خليفي إلى المشهد الثاني، احتجبت تلك البساطة خلف سحابة من التعقيدات ومن الأحداث المتواترة في رحلة بحث مضنية عن المكان والزمان... «الزنديق» فيلم موغل في الصدق وفي الجمالية وفي الحرفية أيضا، لكنه مركّب وصعب، قد لا يفهمه المتفرّج العادي لفرط ما يحمله من دلالات مبهمة... هو أشبه بلعبة فك للألغاز... صعبة، لكنها في ذات الوقت مسلية ألفها وأخرجها ميشيل خليفي الحاصل على جائزة النقاد العالمية في مهرجان كان دورة 1987 عن فيلمه «عرس الجليل» وعلى عديد الجوائز في مهرجان قرطاج السينمائي... إنه المستر «م» ملخص الفيلم أن مخرجا فلسطينيا يدعى «م» يقرر العودة إلى رام الله بعد سنوات من الاغتراب, يعود لتصوير فيلم وثائقي عن النكبة، مستأنسا بشهادة من عايشوها لكشف آلام تلك الحقبة وتداعياتها المؤلمة على فلسطين المعاصرة... رحلة يوم وليلة تحوّل فيها المستر «م» من شاهد إلى ضحية حينما قام أحد أقاربه بقتل رجل من مدينة الناصرة (مسقط رأس المخرج) فوجد نفسه محاصرا... وحيدا... يلفظه الناس وترفضه الأماكن... يوم وليلة عاش فيهما البطل أزمة حقيقية تهدد وجوده وكيانه ومعتقداته... الناس يرونه زنديقا لأنه يكفر بمعتقداتهم. لا أحد يقبله ولا مكان يأويه. وفي زخم الأحداث التي يعيشها تتداخل الكثير من القضايا التي ولئن اختار ميشيل خليفي عدم الوقوف عندها بدقة، إلا أن مقاصدها وصلت ورسالتها تحققت... عرّج خليفي مع زنديقه على مشاكل الحصار والتهجير والانشقاق وأزمة الماء وقدّم صورة جميلة للمرأة الفلسطينية كأم وحبيبة موظفة بذكاء ليس بغريب على هذا المبدع. فالأم هي الماضي بكل ما يحمله من خوف والحبيبة هي المستقبل بكل ما يكسوه من أمل. حرف «م» الذي اختاره ميشيل خليفي اسما لبطله قد يعني مكانا أو منزلا وقد تكون تلك الميم أول حرف من اسم ميشيل أوليس ابن الناصرة التي ولد فيها وعرف أحياءها وألف أهلها. هذا السيد «م» الذي قدّم شخصيته ببراعة كبيرة الممثل والمخرج الوثائقي محمد بكري هو خليط من الأحاسيس المتناقضة... يعيش الخوف والوحدة على أرض الواقع ويهرب منهما بالكاميرا والصورة إلى دنيا الأحلام فكلّما أحس «م» بالوحشة إلا وأخذ الكاميرا إما ليصوّر وإما ليسترجع بعض الذكريات أليمة كانت أو جميلة. ورغم مسحة الحزن والألم والهروب المتواصل التي تطغى على حياته وتلف المكان هناك أمل... الأمل الذي عبّر عنه خليفي بالطفل غسان... هذا الطفل الذي أصرّ السيد «م» على تعليمه كيف يمسك بالكاميرا ويلتقط المناظر والذي أصرّ على أن يعود إليه ليهرّبه معه في السيارة خلال مداهمة الشرطة الإسرائيلية للحي الذي يقطنه. نهاية الفيلم جاءت مؤكدة شخصية السيد «م» الذي لم تغير اللحظات العصيبة من روحه شيئا... فعندما تأتيه الحبيبة (ميرنا عوض) وهي تمشي على الماء (في الموروث المسيحي الذي يمشي على الماء شخص مؤمن) وتطلب منه أن يرافقها... تنتهي الصورة بعودتها ووقوفه هو على حافة الشاطئ، بمعنى أنه يرفض اتباعها، وكيف يقبل... أوليس «م» زنديقا؟