جدل كبير يدور هذه الأيام بين المهتمين بالشأن التربوي بعيد الثورة حول ما إذا كانت تربية الناشئة على المواطنة وحقوق الإنسان رهينة برامج تربوية ودروس فلسفة وتربية مدنية وتحية علم في الساحة أم أن الأمر يتجاوز المنظومة التربوية.. ولئن كان الإصلاح التربوي يرمي في أبعاده المدنية إلى تخريج جيل متجذر في هويته قادر على العيش مع الآخرين محترم لغيره متسامح فكرا وسلوكا واع بالاختلاف قادر على الإنصات إلى الآخر مجتنب للتعصب مدرك لنسبية القيم والحقيقة موضوعي متضامن، فإن كل الجهود المبذولة لترسيخ هذه القيم يمكن أن تنسف بمجرد تخطيهم أسوار المؤسسة التربوية. وفي هذا السياق يقول الخبير التربوي طارق بن الحاج إنه فوجئ بكلام وزير التربية مؤخرا في التلفزيون عندما تعرض لمسألة التربية على المواطنة وحقوق الانسان وهو يرى أن توقيت الحديث عنها خاطئ وتشخيصها خاطئ.. وربط الوزير التربية على المواطنة وحقوق الإنسان بتغيير البرامج والمضامين التربوية. ويرى الخبير أن المضامين التربوية والنظرية كانت بشكل من الأشكال موجودة في البرامج الرسمية للمنظومة التربوية الحالية.. ومدرجة في مواد قارة وهي المواد الاجتماعية والتربية المدنية والفلسفة لكنها عجزت عن تكريس قيم المواطنة والتربية على حقوق الإنسان ولم تحد حتى من العنف المدرسي الذي يعتبر نقيضا لروح المواطنة وحقوق الإنسان. فالتربية على المواطنة وحقوق الإنسان على حد قوله لا يمكن اختزالها في المضامين التربوية ومعرفة القوانين المنظمة لحقوق الإنسان وحفظها واستعراضها عند الحاجة بل تتكون من ثلاثة محاور رئيسية إذا اختل جانب منها سقطت برمتها. وتتلخص هذه المحاور في الجوانب التربوية والمؤسساتية و السياسية. ويقتضي تحقيق الجانب التربوي إعادة الاعتبار للمعارف ألأساسية في المراحل الأولى للتعليم (الحساب- اللغة- القراءة- الكتابة) لأن متانة التكوين الأساسي حق لكل طفل وسبيل ليصبح مواطنا واعيا مدركا لحقوقه وواجباته. كما يستدعي مراجعة البرامج الدراسية والتخفيف من ثقل البرامج الرسمية التي ترهق التلميذ والمدرس على حد السواء دون فائدة كبيرة وإعادة الاعتبار لمفهوم الوقت الحر داخل المؤسسة التربوية وخاصة للنوادي ذات الطبيعة الثقافية والفنية(نوادي السينما والمسرح والرسم والشعر...). وذكر الخبير أن ترسيخ مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان بالمعنى الحقيقي لا يكفي مجرد تضمين هذه المبادئ في برنامج رسمي يمتحن فيه التلميذ بل يجب أن تكون هذه المعرفة في شكل نوادي ذات أنشطة مختلفة ورؤية موحدة تركز جميعها على خلق الإنسان التونسي المبدع والحر. كما يستدعي إعادة النظر في طرق إدارة الشأن التربوي وإرساء لا مركزية إدارية تمكن كل جهة وكل مؤسسة بالتكيف والتفاعل مع محيطها بشكل خصوصي تكون فيها مصلحة التلميذ ورأيه عماد توجهات كل مدرسة وإعادة النظر في تسيير المؤسسات التربوية والاعتماد أكثر فأكثر على نموذج التسيير التشاركي أكثر من الإدارة الفوقية القاهرة. ويضيف الخبير :"ويجب أن يكون الإصغاء مكونا أساسيا من مكونات المنظومة التربوية يعمل بالتوازي مع العمل الإداري والبيداغوجي ويقوم به المختصون لخلق فرص أمام التلميذ للتعبير عن آرائه واحتياجاته بكل حرية ولتطوير الجانب العلائقي المفقود داخل المؤسسات التربوية.. ومن نتائج ذلك تطوير آليات الوساطة وفض النزاعات والاشتباكات بطرق حضارية وعقلانية وتقتضي ثقافة الحوار دربة لا تخصيص قاعة اجتماعات للحوارات". كما يقتضي إعادة النظر في الزمن المدرسي لأن معدل ساعات دراسة التلميذ التونسي هي من أعلى النسب في العالم وهو أشبه بالمعتقل ويسيء هذا الاعتقال إلى إنسانية التلميذ ويبدد طاقاته. الجانب المؤسساتي بالإضافة إلى البعد التربوي يقتضي ترسيخ أسس التربية على المواطنة وحقوق الإنسان وفق ما ذهب إليه طارق بن الحاج وجود مؤسسات محايدة من خارج الحقل التربوي تحميها وتدعمها وتنأى بها عن مجرد الشعارات الدعائية السياسية. وفسر أنه لا يمكن للتلميذ أن يتربى على المواطنة وحقوق الإنسان إلا إذا كانت هذه القيم ثقافة اجتماعية وسياسية راسخة خارج المدرسة وهو ما لا يتوفر الآن. وفي ما يتعلق بالجانب السياسي يرى الخبير أن موضوع التربية على المواطنة وحقوق الإنسان هو موضوع من الأهمية بمكان بحيث لا يمكن أن يطرحه وزير تربية في حكومة تصريف أعمال ووزارة حافظت على نفس الهياكل والأشخاص وطرق العمل التي أفسدت الشأن التربوي والتي ترى في الأطراف النقابية والمدنية والمختصين والمستقلين عدوا للإدارة. ويخلص الخبير إلى أنه لا يمكن التربية على المواطنة وحقوق الإنسان ذات جدوى إلا في نظام سياسي يحترم هذه المبادئ في جوهرها ويدعمها ويكرسها في الواقع السياسي والاجتماعي لأن الجانب التربوي ليس معزولا عن الحقل الاجتماعي والسياسي