تعيش تونس اليوم أجواء من الديمقراطية والتحرر -وصلت احيانا الى الانفلات- في وقت انهمكت فيه جميع القوى السياسية والقانونية في البحث عن سبل اخراج البلاد مما تردت فيه لسنوات من حالة الفوضى القانونية والدستورية والانغلاق السياسي والحد من الحريات... هذا التمشي الجديد انخرط فيه جل رجال السياسة والمجتمع المدني وخبراء القانون...وبالطبع اختلفت الرؤى ووجهات النظر في طريقة السير بالبلاد الى المنحى الذي قامت من أجله الثورة وفي طريق تحقيق اهداف الثورة. "الصباح" التقت بالاستاذ الجامعي والخبير في القانون الدستوري الصغير الزكراوي لتسليط الاضواء على الواقع السياسي الراهن في البلاد والخيارات القانونية والدستورية والاجرائية المنتظرة خلال الانتخابات المقبلة وأي منظومة سياسية انسب لتونس المستقبل.
تشهد الساحة السياسية والحقوقية هذه الأيام عدة تجاذبات واختلاف رؤى يرى البعض انها باتت تهدد الاستقرار العام للبلاد وتمنع الاصلاح الطبيعي الذي قامت من اجله الثورة.فكيف تقيمون الوضع الراهن واي افق ترونه للبلاد؟
هناك عدة مسائل تلفت الإنتباه وتشد المتابع للشأن العام.أول هذه المسائل هي كثرة الأحزاب. وهي كثرة لا تشكل استجابة للواقع الذي لا يتحمل هذا الكم الهائل من الأحزاب. فتونس تمر اليوم بمرحلة انتقالية ومن الطبيعي أن يبادر البعض ببعث أحزاب كتعبير عن الوجود والحضور فقط. أما المسالة الثانية التي تثير الاستغراب فتتمثل في الحضور الاستفزازي لبعض الأسماء المنتمية إلى نفس العائلات احتلت منذ 14 جانفي واجهة الأحداث رغم أنها لم تساهم في الثورة ولم يكن لها أي دور سياسي سابقا. والخشية أن يغذي هذا الحضور الاستفزازي النزعة الجهوية في البلاد. آمال عريضة مبنية على الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة لاخراج البلاد من حالة الفوضى السياسية والقانونية التي تردت فيها؟ فهل ترى ان هذه الهيئة التي عجزت عن عقد اجتماعاتها لحد اليوم قادرة على ان تكون المنقذ؟ في صيغتها الأولى، اللجنة العليا للإصلاح السياسي كانت محل نقد لاذع لان تركيبتها لم تخضع إلى معايير موضوعية بل اختير أعضاؤها على أساس المحسوبية والولاءات الشخصية.كما تم التضخيم من صورة رئيسها وتقديمه وكأنه المنقذ الوحيد للبلاد والحامي لمستقبلها الديمقراطي حتى أنه بات يتصرف باستعلاء وتعمد الإبقاء على خبراء القانون الدستوري الحقيقيين خارج اللجنة.في حين انضم إليها "خبراء" ساهموا في بث الفوضى من خلال التلويح بعدة سيناريوهات والحلول المتداخلة دون الدعوة منذ البداية لانتخاب مجلس وطني تأسيسي خشية ان يجردهم المجلس من أهم دور كانوا يحلمون به ألا وهو إعداد دستور للبلاد وتقديمه للشعب في شكل منحة من السلطة. أما في صيغتها الحالية ومع توسيع دورها وتركيبتها، أصبحت اللجنة عرضة أكثر من أي وقت مضى للنقد. فإلى جانب غياب تمثيل الجهات ومختلف الحساسيات الفكرية والثقافية فإن الحكومة أخطأت في اختيار ما سمتهم ب"الشخصيات الوطنية" والنتيجة هي هذه الهجمة الفرانكفونية الشرسة وتكالب من يصفون أنفسهم ب"الرموز" على التواجد في هذا المجلس ونصبوا أنفسهم برلمانا دائما. وليس من حقهم ذلك باعتبار أن هذه اللجنة استشارية ودورها يقتصر على إبداء الرأي في إصلاحات الحكومة وليس من بين أدوارها المبادرة بإصلاح القوانين.
لكن تصريحات رئيس اللجنة تشير إلى عكس ما تقول؟
وهذا أمر آخر لا يقل غرابة باعتبار أن هذه اللجنة ورئيسها ملزمون بواجب التحفظ. فكيف يبدي رئيس اللجنة بآرائه في الشأن السياسي قبل أن تقع استشارته. والمفروض أن لا يدلي أعضاء اللجنة بمواقفهم للعموم حتى لا يؤثروا على الرأي العام في الشؤون السياسية التي لم يتم البت فيها.
أي دور ترونه اليوم للمجلس التأسيسي؟
دور المجلس في هذه المرحلة هو بالأساس إعداد دستور للبلاد وهي المهمة التي سيقع انتخابه من اجلها. وبانتخابه سيكون المجلس التاسيسي الهيكل الوحيد الحاصل على الشرعية ولا يمكن لاي هيكل آخر او حزب ان يفرض ارادته على المجلس الذي سيتحول الى السلطة الاصلية. المهمة الثانية التي يمكن ان تسند للمجلس هي مهمة تشريعية وبامكانه وقتها مراجعة القوانين ومراقبة الحكومة والتصويت على الميزانية...وهي جملة من المهام التي أسندت للمجلس التأسيسي سنة 1956. وما يجب التأكيد عليه هو أن الأولوية في المرحلة الحالية تكمن في إعداد الدستور في فترة وجيزة وبالتحديد في اجل لا يتجاوز السنة من تاريخ انتخاب المجلس.
هناك اختلاف في وجهات النظر بين مؤيد للنظام الرئاسي وداع إلى نظام برلماني.فأي النظامين ترونه أصلح لبلادنا؟
قبل كل شيء من الضروري توضيح المفهومين فالنظام الرئاسي يقوم على حصر السلطة التنفيذية بيد رئيس الدولة كما يقوم على الفصل التام بين السلطات فرئيس الدولة منتخب من قبل الشعب مالك السلطة ومصدرها، ويرأس رئيس الدولة الحكومة ويمارس سلطاته بنفسه وهو الذي يختار وزراءه الذين يقومون بتنفيذ السياسة العامة التي يرسمها لهم. ومن أهم مظاهر الفصل بين السلطات عدم اقتراح السلطة التنفيذية مشاريع القوانين وعدم مشاركة الوزراء ورئيس الدولة في مناقشات البرلمان وعدم امكانية حل المجلس النيابي من قبل السلطة التنفيذية، ويقابل ذلك حرمان البرلمان من حق سحب الثقة من الرئيس أو وزرائه. أما النظام البرلماني فتقوم العلاقة فيه بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، على أساس التعاون وتبادل المراقبة. ويتميز الجهاز التنفيذي بالثنائية من حيث وجود رئيس دولة منصبه شرفي وحكومة تختار من حزب الأغلبية في البرلمان تمارس السلطة الفعلية وتكون مسؤولة عنها أمام البرلمان، كما ان مسؤولية الحكومة تضامنية وهي مسؤولية سياسية تتمثل في وجوب استقالة كل حكومة تفقد ثقة البرلمان، بينما في النظام الرئاسي لا وجود لحكومة متجانسة متضامنة في المسؤولية. وتقام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية علاقة تعاون وتوازن أبرزها حق الحكومة في الدفاع عن سياستها أمام البرلمان، والمشاركة في العملية التشريعية بما يمنحه لها الدستور من حق اقتراح القوانين والتصديق عليها، أما الرقابة المتبادلة فأبرز مظاهرها حق البرلمان في سحب الثقة من الحكومة ويقابله حق الحكومة في حل البرلمان. وقد نشأ النظام الرئاسي في الولاياتالمتحدةالأمريكية ولكن معالمه قد تغيرت كثيراً وبخاصة فيما يتعلق بالفصل بين السلطات إذ حل التعاون محل التباعد والاستقلال المطلق. أما النظام البرلماني فقد نشأ في انقلترا ومنها تحددت معالمه. لكن من الضروري التاكيد ان أهم شيء في النظام السياسي هو طريقة الاقتراع المعتمدة لان النظام السياسي ليس نظاما رئاسيا أو برلمانيا فحسب بل من بين المسائل الأخرى المحددة للنجاح السياسي لأي دولة هو طريقة الاقتراع المعتمدة.
وأي من طرق الاقتراع ترونه صالحا في هذه المرحلة طريقة الاقتراع الفردية ام على القائمات؟
الاقتراع حسب القائمات لا يتماشى مع هذه المرحلة امام عيوبه الكثيرة في ظل غياب احزاب لها برامج وفي ظل عدم وضوح الرؤية لدى المواطن وفي ظل احتمالات تكتلات لبعض الاطراف القوية وهو ما يمكن ان يقصي العناصر التي يمكن ان تكون لها برامج وتقدم الاضافة. فالثورة فاجأت الجميع وكانت ثورة دون رأس ودون قيادة. ثورة قامت ضد الاستبداد والظلم والفساد. لم تلعب الأحزاب أي دور في هذه الثورة وبالتالي ليس من حقها الركوب على الثورة والسير بها في الطريق الذي تريد. وليس من حقها أن تفرض نظام انتخاب يخدم فقط مصالحها. والغريب أن هناك أحزابا في طور النشأة وليس لها برامج واضحة. لذلك فإن الاقتراع على الأفراد هو النظام الانتخابي الملائم لبلادنا في هذه المرحلة. وطريقته بسيطة وتتماشى مع تكوين التونسي. ووفقا لهذه الطريقة سيقع اعتماد المعتمدية كدائرة انتخابية ويختار الناخب مترشحا من بين المترشحين وليس قائمة. ومن ايجابيات هذا النظام إعطاء فرصة أكبر للجهات لتكون ممثلة ومن مساوئه الخشية من بروز ظاهرة "الأعيان" بالإضافة إلى أن هذه العملية مكلفة ماديا باعتبارها ستجرى على دورتين. أما نظام القائمات فهو معقد ويدخلنا في متاهات الأحزاب.
هناك من ينادي بتأخير الانتخابات المحددة ليوم 24 جويلية القادم.
هذا الحل يمثل اقرارا بالشك والفشل ومن شان ذلك لن يدخلنا في موجة من التردد ويبين اننا غير قادرين على تحقيق استحقاقات المرحلة. فمصر التي انجزت ثورتها بعدنا نجدها اليوم بصدد قطع خطوات سريعة وفي الاتجاه الصحيح ونحن كذلك علينا ان نواصل مسيرتنا في الاتجاه السليم..ويبدو ان بعض الاحزاب التي تكونت في المدة الاخيرة اصبحت تمثل عقبة ولا بد من الالتزام بالرزنامة ومن اجراء الانتخابات في موعدها المحدد وخلاف ذلك هو تشكيك في قدرتنا على تحقيق اهداف الثورة.