تونس- الصباح: مساء الجمعة الماضي كان الموعد بفضاء مسرح الفنون بدار بن عبدالله مع العرض الاول لمسرحية «جاي من غادي» تاليف واخراج نورالدين الورغي... تمثيل جمال المداني وناجية الورغي... العرض حضرته عديد الوجوه الثقافية والمسرحية والتلفزيونية... فضلا عن جمهور نوعي متكون في اغلبه من طلبة ومسرحيين شبان... «جاي من غادي» الذين يعرفون انتاجات مسرح الارض بادارة الفنان المسرحي نورالدين الورغي , ولئن لم تفاجئهم تلك النبرة الحزينة والماساوية التي طبعت الخطاب الدرامي لمسرحية «جاي من غادي» على اعتبار ان جل اعمال هذا الفنان المسرحي كانت دائما تغرف - دراميا- من بؤس الواقع الاجتماعي والنفسي للانسان في محيطه بجميع مكوناته... فانهم لابد ان يكون قد لفت انتباههم- بالمقابل- ذلك الكم من السخرية المرة المبثوثة في ثنايا الخطاب المسرحي لمسرحية «جاي من غادي»... فهذه المسرحية وعلى الرغم من طابعها الفجائعي والتراجيدي من حيث انها تمثل في عمقها صرخة فنية حزينة وبليغة في وجه بشاعة ووحشية جرائم الدمار والقتل والاستخفاف بالانسان والحياة التي يرتكبها صناع الحروب - هنا وهناك- على مراى ومسمع من جميع وسائل الاعلام في عصر العولمة هذا... فانها ( المسرحية) بدت ايضا ساخرة ومستهزئة - لا فقط- بكل اشكال الطاغوت والجهل والجريمة والديكتاتورية... بل وايضا بظاهرة الحرب ذاتها بوصفها ظاهرة همجية ولا انسانية... حرب على الحرب والواقع ان محور الحرب وبشاعتها واهوالها وعبثيتها يمثل «تيمة» بارزة كثيرا ما اشتغل عليها الفنان المسرحي نورالدين الورغي في اعماله ... بل لعله يمكن القول ان هذا المحور هو الذي شكل عنوان جل اعمال نورالدين الورغي الاخيرة... فمن مسرحية تراجيديا الديوك انتاج سنة (1995) مرورا بمسرحية حوافر السبول (1997) ومسرحية محمد الدرة (2000) ووصولا الى مسرحية «جاي من غادي» راح الفنان المسرحي نورالدين الورغي يقارب فنيا وبخطاب مسرحي ابداعي بقدر ما هو شاعري هوايضا فجائعي ظاهرة الحرب وويلاتها وعبثيتها وكانه بذلك قد اخذ قراره الفني والمسرحي باعلان الحرب على ظاهرة الحرب ذاتها ... جاي «من العراق الحزين» في مسرحية «جاي من غادي» وانطلاقا من حادثة شنق الرئيس صدام حسين التراجيدية ... وانطلاقا ايضا من كل اشكال جرائم القتل والترويع والاستخفاف بالانسان والتاريخ والحضارة التي يرتكبها المحتلون في العراق يطلق نورالدين الورغي صرخته الفنية في وجه - لا فقط- بشاعة ووحشية هذا الاجرام الدولي بل وايضا في وجه حالة الصمت واللامبالاة والتواطئ والخنوع والخضوع العربي الرسمي والشعبي ... في زمن علا فيه - في مجتمعاتنا العربية-صوت غرغرة الشيشة (النرجيلة) على صوت البندقية... على ان اللافت - بحق- في مسرحية «جاي من غادي» هو شيئان اساسيان: (1) تلك الصور البلاغية - على مستوى النص - التي استطاع الفنان نورالدين الورغي ان يشحن بها خطابه المسرحي الشاعري ... الى درجة ان المتفرج لابد ان يعجب لكثافة كم الرمزية والشاعرية المتوفرة في هذا الخطاب... (2) ذلك الاداء التمثيلي المبهر للممثل جمال المداني وهويترجم - مسرحيا- ما هو منطوق الى كم من الحضور الانفعالي والتعبيري البليغ والمؤثر دراميا وفرجويا... ان مسرحية «جاي من غادي» للثنائي جمال المداني وناجية الورغي هي شهادة اخرى وجديدة على حيوية المشهد المسرحي في بلادنا وعلى نبوغ مسرحيينا ومدى ما يتحلون به من شجاعة ادبية ومن خيال فني خلاق يؤهلهم لان يقولوا كلمتهم في ادق المسائل والقضايا بخطاب فني وفرجوي راق بعيدا عن الشعاراتية والدمغجة وكل اشكال الثرثرة مهما كان نوعها...